وسط هذا التشويش العظيم الذي يكتنف الأوضاع وحالة الصراع الواسع على أرض فلسطين، لم يخطر على بال أحد أن يصدر الرئيس محمود عباس، مرسوماً بإجراء الانتخابات للمجلس الوطني الفلسطيني خلال ما تبقّى من هذا العام.
ومن أجل إضفاء جدّية على المرسوم أصدر مرسوماً آخر بتشكيل لجنة مكوّنة من 27 شخصية سياسية في أغلبها، من المفترض أن تباشر عملها في ضوء محدودية الزمن المتاح.
كما نفهم فإن اللجنة ليست معنية بإجراء حوارات وطنية واسعة كالتي عهدناها في سابق التاريخ ومن أجل تشكيل المجالس الوطنية، أو حتى التشريعية.
المرسوم، عملياً وضع حداً لكل الداعين لحوار وطني ومصالحة وطنية، كالتي سادت من قبل خلال سنوات طويلة آخرها كان ما يُعرف بـ»اتفاق بكين»، الذي سقط هو الآخر، مثلما سقطت الاتفاقيات السابقة وحملت أسماء أماكن وعواصم مختلفة.
وبالإضافة، فإن المرسوم بنصوصه، يضع شروطاً، لمن يرغب في ترشيح نفسه، أو غيره، سواء أكان شخصاً، أم فصيلاً. الشروط عملياً تقصي فصائل رفضت وعمّقت التجربة رفضها، بعد أكثر من 30 عاماً على اتفاقية أوسلو للشروط التي انبنت عليها قبل أن تصبح اتفاقية.
الشروط تتحدث عن الالتزام، ببرنامج منظمة التحرير الفلسطينية والالتزامات التي ترتّبت عليها، ومنها نبذ العنف (الإرهاب) والاعتراف بحق الدولة العبرية في الوجود.
ابتداء، هذه الشروط تعني أنه ليست هناك فرصة، لمشاركة حركتي حماس والجهاد الإسلامي والجبهة الشعبية، وربّما الجبهة الديمقراطية، فضلاً عن طيف واسع من الشخصيات الوطنية في داخل الوطن وخارجه.
بعبارة أخرى، وعملياً فإن الانتخابات التي يدعو إليها، المرسوم، تذهب نحو إعادة تأسيس المنظمة على أسس مختلفة، وبميثاق هلامي الملامح، وبرنامج ضبابي.
ربّما لا يرى الكثيرون أن الوقت والظروف الراهنة مناسبة لتراجع المنظمة عن تلك الشروط التي سبقت اتفاقية أوسلو، وعمّرت أكثر من 30 عاماً.
وربّما، أيضاً، من غير المناسب أن تعلن المنظمة تنصّلها من اتفاقية أوسلو، بعد أن قامت دولة الاحتلال بتدميرها، والتنصّل من أبسط التزاماتها، وتحويلها إلى غطاء هشّ، لتعظيم مخطّطاتها الاستيطانية والاستلابية.
أقول ذلك، لأنه لا ينبغي إفساد المُناخات الدولية التي تشهد اعترافات مزيد من الدول الوازنة، وخاصة الأوروبية بدولة فلسطين، كما لا ينبغي توفير أيّ ذرائع للبعض الذي ينتظر فرصة للتردّد أو التراجع.
غير أن الأسئلة كثيرة، حول موضوع الانتخابات، في ظلّ هذه الظروف العاصفة، التي يمرّ بها الشعب الفلسطيني، بعد أن كانت صعبة وغير ممكنة في ظروف أفضل كثيراً من الظروف الراهنة.
هل يمكن إجراء الانتخابات مثلاً في قطاع غزّة، بينما المجتمع الفلسطيني مهشّم، معذّب، لا يزال مستقبله غير واضحٍ في ضوء استمرار حرب الإبادة والتجويع، ومخاطر التهجير، واحتمالات استمرار الحرب العدوانية التي يريدها رئيس الحكومة الفاشية بنيامين نتنياهو نحو احتلال القطاع بالكامل؟
هل يمكن إجراء الانتخابات في القدس، التي كانت في وقت سابق عقد العقد، بسبب رفض الاحتلال مشاركة المقدسيين فيها؟
هل تغيّر الموقف الإسرائيلي، من مسألة مشاركة المقدسيّين في الانتخابات، بينما تتصاعد هجمات سوائب المستوطنين والمتطرفين، على المسجد الأقصى، الذي بات قاب قوسين أو أدنى من أن تفرض دولة الاحتلال إجراءات تؤدّي إلى تقسيمه زمنياً ومكانياً؟
وماذا عن الأوضاع في الضفة الغربية، فهل تملك استقراراً نسبياً واستعداداً مجتمعياً، للانخراط بنسبة عالية في عملية الانتخابات، بينما المستوطنون والجيش يعيثون فساداً وتخريباً، واعتداءً على ممتلكات الفلسطينيين؟
وماذا بعد ذلك؟ أين يمكن أن تجرى الانتخابات في أيّ إقليمٍ آخر، خصوصاً في المنطقة العربية، مع ضمان النزاهة والشفافية أم أن الأوضاع العربية باتت أكثر صعوبة من أي وقتٍ مضى؟
ربّما يتفهّم المرء، أن قرار إجراء انتخابات المجلس الوطني تشكّل استحقاقاً خارجياً، بمعنى أن هناك طلبات وضغوطا خارجية أوروبية أساساً، وربّما عربية، في إطار الإصلاحات المطلوبة من السلطة باعتبار ذلك أحد المطالب أو الشروط الضرورية للحصول على اعترافات دول مهمّة.
والسؤال: هل في حال اعترفت كل أوروبا الغربية، وهو أمر غير وارد طبعاً، بدولة فلسطينية، سيكون ذلك كافياً أو ضمانة لتحقيق «حلّ الدولتين»؟
وأيضاً، هل يستطيع الأوروبيون، الضغط على دولة الاحتلال من أجل تسهيل إجراء الانتخابات في الضفة وغزة والقدس، بينما تتجه الأخيرة نحو الحسم، وبسط السيادة على أجزاء واسعة من الضفة وغور الأردن، بعد أن فعلت ذلك في القدس؟
بالتأكيد لا يمكن لأحد التقليل من أهمية الاعترافات الدولية بفلسطين، ولا يجوز لأحد أن يعطّل هذا المسار، ولكن الكل يدرك أن الولايات المتحدة الأميركية هي صاحبة القول الفصل حتى الآن، فيما يتعلّق بالصراع، وهي ليست في وارد تغيير سياساتها المعروفة.
نخشى أن يؤدّي مرسوم الانتخابات إلى تمزيق الحركة الوطنية الفلسطينية بعد أن عانت من انقسام، كان يمكن تداركه، وينبغي أن يتمّ تداركه بشكل أو بآخر، وفي السياق ذاته، فإنه سيؤدّي إلى تعريف مختلف للشرعية، لكونه ينزع الشرعية عن فصائل عمل وطني.