نتنياهو من العزلة إلى الاختناق!
نشر بتاريخ: 2025/09/18 (آخر تحديث: 2025/09/18 الساعة: 13:56)

عندما تصل الأمور ببنيامين نتنياهو المطلوب لـ»الجنائية الدولية» للحديث عن الحالة الإسرائيلية بأنها تسير قُدماً نحو مرحلة «الإسبارطية» هذا يعني الكثير، وأنه على استعداد تام للذهاب في مغامراته ومقامراته، أيضاً إلى النهاية.

يعتقد نتنياهو ــ وقد يكون على حق ــ أن كافة التهديدات التي يواجهها كيانه منذ 7/10/2023 هي تهديدات «وجودية»، وأن هذه التهديدات تتوفر لها كل المقومات والمقدرات المطلوبة لتحويلها من تهديدات إلى فرص لن تتوفر لها مطلقاً في ظروف أخرى.

أقصد أن نتنياهو هنا يحتاج إلى إقناع المجتمع الإسرائيلي بقدر ما هو مُتاح، وإلى إقناع أميركا بما هو مُتاح فعلاً بضرورة الانطلاق من «طبيعة» هذه التهديدات باعتبارها وجودية كشرط لتحولها إلى فرص حقيقية قابلة للتحقق على الأرض.

ومع أن مفهوم التهديدات الوجودية بحدّ ذاته مفهوم ينطوي على عدة مقاربات، وهو مفهوم متحرّك ومطّاط، وليس معطى ثابتاً محدداً في إطار، أو هو مُقلوب على هيئة ما، أو شاكلة ملموسة إلّا أن هذه الطبيعة لهذا المفهوم لا تتعارض مع استخدام نتنياهو له، إن لم نقل يفيده ويخدم أغراضه وأهدافه.

المهم بالنسبة لنتنياهو أن تتوفر له القوى السياسية التي تشاركه ــ وقد يصحّ القول إنه يشاركها ــ المنطلقات الفكرية في تحديد طبيعة هذه التهديدات، وفي العمل على تحويلها إلى فرص حقيقية.

ولهذا فقد عمل بكل مثابرة وإصرار على المحافظة على هذه القوى، وراوغ الجميع، ودون استثناء للإبقاء على تماسكها حتى الآن.

وهذا الإصرار بالذات كان قاعدة الانطلاق والارتكاز الأولى في إستراتيجيته ما بعد «طوفان الأقصى»، تقديراً منه ــ وهو تقدير صحيح ــ أن لا فائدة تُرجى من أي عوامل أخرى، حتى تلك الأميركية إذا ما كانت حكومته، والائتلاف الفاشي الذي يقوده مهدداً بالانفراط.

قاعدة الارتكاز الثانية كانت في إستراتيجيته لتحويل التهديدات إلى فرص حقيقية قابلة للتحقيق من وجهة نظره هي القاعدة الأميركية.

لم يكن قلقاً بشأن هذه القاعدة، لأن أميركا ممثلة بـ»الدولة العميقة»، وممثلة بـ»الترامبية» فيما بعد، وما جرى من تحوّلات أفضت من بين ما أفضت إليه إلى «خلطة» مدمجة بينهما، لم تكن بحاجة إلى أي شكل من أشكال الإقناع بوجودية هذه التهديدات على مصالح أميركا في منطقة الإقليم كما عبّر عنها جو بايدن وأقطاب إدارته حينها، وكيف هرعوا كلهم للجلوس في غرفة عمليات الحرب العدوانية من على قاعدة هذا الفهم والقناعة بالذات، ولم يكن ترامب بحاجة إلى أيّ إقناع، وذلك لأن هذه الإدارة أصبحت أكثر قناعة بهذه التهديدات من إدارة بايدن من زاوية الفرص، إضافة إلى وجودية التهديدات.

هنا نستذكر زيارات نتنياهو لأميركا، وكيف أن الطابع الوجودي للتهديدات، وكذلك الفرص القابلة للتحقيق كانت صُلب المحادثات، وكيف أن القرارات الكبرى لأميركا في دعم الخطط الإسرائيلية قد اتخذت أثناء تلك الزيارات، بما فيها قرارات «البيجر» و»اللاسلكي»، والاغتيالات الكبيرة في بيروت وطهران، وحتى قرار الحرب على إيران.

قاعدة الارتكاز الثالثة في إستراتيجية نتنياهو في حرب التهديدات والفرص كانت مراهناته، ومراهنة أميركا على استكانة الحالة العربية الرسمية، وحصر الحراك السياسي للنظام العربي كلّه في دائرة «الوساطة» والإبقاء على دور الأفعال محصورة في الجانب الإعلامي دون اتخاذ أي إجراءات رادعة، ودون التفكير، مجرّد التفكير بالضغط على أميركا، والقبول بدور المتفرّج مطعّماً بالشجب والإدانة والاستنكار في المناسبات التي تتطلّب ذلك، وذهاب الإعلام العربي إلى التماهي مع الرواية الإسرائيلية عن هذه الحرب العدوانية أحياناً.

عندما «نجح» نتنياهو في تأمين هذه القواعد الثلاث، وتأكّد بصورة تكاد تكون على درجة عالية من «الاطمئنان» من كل شيء، وخصوصاً الاطمئنان الأخير الذي تمثل ببيان «الدوحة» الصادر عن القمة العربية الإسلامية، والذي أخرج أميركا من دورها المباشر والمفضوح في الهجوم الإسرائيلي على العاصمة القطرية، وبالاكتفاء ببيان صحافي من مجلس الأمن، لا قيمة له على الإطلاق لأنه أحجم عن تسمية المعتدي، وحوّله إلى مبني للمجهول، في حين ذكر حركة حماس بالاسم والتحديد، وأبقى سياسات الردع والتصدي بالإجراءات الملموسة في دائرة اللغة والإسهاب والإطناب، والكنايات والاستعارات، بما فيها الشرعية من العصر الجاهلي.

أيقن نتنياهو أنه بات بالإمكان الانتقال إلى «مرحلة جديدة» من «إسرائيل الكبرى» بعد أن تمهّدت كل الظروف المناسبة «لكسر» حلقة غزّة، ليس بهدف إنهاء حربه الهمجية ــ كما يعتقد أقطاب النظام العربي والإسلامي، وإنما لكي يتم الانتقال بالإستراتيجية الإسرائيلية المدعومة أميركياً إلى حرب أو حروب جديدة، ليس فقط في لبنان، وضدّ اليمن، وإنما حروب جديدة لتغيير الواقع السوري نحو نظام وظيفي يخدم ويخدّم على هذه الإستراتيجية، وبما يشلّ أي فعالية لتركيا هناك أو إعادة انخراطها ـ في الوضع السوري الجديد، وصولاً إلى تجديد الحرب على إيران هذا ما يفكّر به نتنياهو.

حرب تؤدّي إلى مزيد من الحروب، ولا شيء غير الحروب، وبصرف النظر عن كمّية الخداع والأكاذيب التي تترافق مع هذه الحروب، فإن نتنياهو أدرك، وأصبح يفصح عن هذه الإستراتيجية، وترامب نفسه بات يطارد نتنياهو ليس بهدف وقفها، وإنما بهدف سرعة حسمها، وهذا هو ما لم يفهمه، ولا يريد العرب والمسلمون أن يفهموه إلّا من رحمَ ربّي.

الشيء الأهمّ في إدراك نتنياهو، وما أفصح عنه هو حديثه عن «إسبارطة». والحديث عن الأخيرة هو اعتراف كبير وخطير بأن عزلة دولة الاحتلال قد تجاوزت بمراحل بكونها مجرّد احتمال، وأصبح الاحتمال الوحيد هو تدحرجها وازديادها، وتصاعدها على نحو لن تنفع معها حملات العلاقات العامة، ولا الدعم الأميركي، ولا «الفرامل» التي تدعو لها بعض البلدان الأوروبية ذات التوجّهات «اليمينية» المفرطة في صهيونيتها، أو البلدان التي تتردّد لاعتباراتها الداخلية الخاصة.

العزلة وصلت في مفهوم نتنياهو إلى واقع لا يمكن الإفلات منه، وهو يدعو مهما حاول التذاكي إلى تحويل كيانه المحتل إلى قلعة مقفلة، وتستغني عن الاشتباك الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي الفعّال مع دول العالم، لتنكمش على نفسها، وتعيش أحلامها الأيديولوجية المريضة داخل أسوارها.

الإفصاح عن «الغيتو» الكبير والجديد الذي يلمح له نتنياهو هو وصفة إلى الانعزال عن العالم، والانفكاك الكامل عن طبيعة العصر، وعن ما وصلت إليه البشرية من تطور في تداخل حياة الدول والأمم والشعوب.

لو كان الفكر السياسي الفلسطيني متحرّراً من عقلية القبيلة السياسية، ومنحازاً للحقيقة الوطنية التي تستقرئ كُنه معادلة الصراع بين مشروعنا الوطني وبين تجلّيات ومصائر التحالف الأميركي الصهيوني في ضوء «البوح» «اليميني» الفاشي.. لو كان الفكر السياسي الفلسطيني المهادن ما زال ينبض بحيوية المنطق الموضوعي، ورؤية متغيّرات الصراع في أفقها المرئي، وليس فقط واقع المأساة الإنسانية والوطنية التي نمرّ بها، لأمكن في مرحلة على هذه الدرجة من الدقة والخطورة والحساسية الذهاب إلى قواسم سياسية جديدة مع معظم فئات وطبقات ومنظمات المجتمع الفلسطيني.

وعندما لا يرى الفكر السياسي العربي عموماً، وما زال بعض أقطابه يتبارزون مع «دون كيشوت» وبنجاح منقطع النظير في معارك حول «حماس» و»المحور الإيراني»، والأذرع والأطراف والطوائف والمذاهب، وما زال هذا الفكر على جانبيه يستبدل الفكر السياسي بـ»القفشات» السياسية، وما دام هذا الفكر قد استعاض عن الرؤى السياسية بالدعوة إلى رؤية جبروت نتنياهو كمصدر أساس لهذا الفكر، وصولاً إلى فشلنا الكبير في التفريق بين شروط أصحاب هذا الفكر، والشروط التي يصرّحها الأخير، بالتمام والكمال.

عندما يصل هذا الفكر إلى هذه النهاية المحزنة لا بدّ أن نفهم عمق المأزق الذي وصلنا إليه في مفارقة عجيبة تحاكي على طريقة «فكرنا» مأزق المشروع الصهيوني الذي بات همّه الأوّل الهروب من الاختناق، والذي يعادل الانتحار بلغة السياسة الواقعية في عصر يبدو فيه خيار نتنياهو بالذهاب إلى «إسبارطة» أكبر إفصاح عن عمق الأزمة الصهيونية، ودليلاً ليس بعده دليل على أن معادلة الصراع أعمق بكثير من «المسطّحات» السياسية التي يفترشها بعض أدعياء الواقعية.

اختناق نتنياهو حتمي، ولا مجال لتفاديه حتى لو كسر حلقة غزّة، وأغلب الظنّ أن اختناقه سيفوّت عليه فرصة كسرها، وإن غداً لناظره قريب.

نتنياهو ذاهب إلى «إسبارطة»، أما فلسطين فهي بوسع الكون كلّه، وشتّان ما بين هارب إلى القلعة لينكمش فيها، وبين شعب يهتف باسمه، وباسم حرّيته مليارات من البشريّة الخيّرة، وتنتفض انتصاراً له شعوب من كلّ أرجاء هذا الكوكب.

الشيء العصي على الإدراك كيف سيخلق نتنياهو «شرق أوسطه الجديد»، وهو يعيش في دهاليز قلعة محاصرة؟!.