دموع غزة ..!
نشر بتاريخ: 2025/09/19 (آخر تحديث: 2025/09/19 الساعة: 17:31)

ليست مدينة ككل المدن، غزة قلب وروح وعقل وذاكرة لا تتمدد على الورق، بل تتمدد في شوارع التاريخ حاملة على أكتافها هذا الإرث الدامي بلا توقف، كأنها امتهنت العراك، ولم تعرف البطالة في مهنة الدم والدموع التي اختارتها منذ أن بدأت تحبو طفلة قبل أن تصاب باليتم مبكراً وتصرخ «يا وحدنا» ليبقى هذا الشعار رفيقاً كما ظِلها تستدعيه كلما اشتدت حلكة الليل الذي طال بلا فجر.

كان الجميع قساة على غزة الفقيرة، العدو الذي ضربها بلا رحمة والأخ الذي تنكر لها والصديق الذي لم يكف عن إذلالها.

والأسوأ أن أبناءها أكثر قسوة عليها حين لم يتوقفوا عن زراعة الكراهية ليقتلوا بعضهم على سلطة في تلك المنطقة قليلة الفرص والإمكانيات.

وتسببت ندرة الفرص بتنافس شديد جعل من الصراع بين أبنائها منذ أن أقاموا لهم حكماً هو السمة الوحيدة القائمة في غزة والتي انتهت بحسم التنافس بالسلاح وقتل وطرد بعضهم.

ومن يومها دخلت غزة الفصل الأخير في سيرتها الدامية وهي تسير نحو النهاية لأن من حكمها لم يكن يقدر مكانتها وهي تعيد كتابة التاريخ، كان يديرها بخفة لا تليق بهيبتها وكان ما كان أمام عدو متوحش يتربص بها.

أطول المواكب حزناً في القرن الحادي والعشرين يسير الآن من مدينة الحزن نحو خيام الحزن.

الناس تسير تاركة كل ما تملك من ذاكرة وذكريات وبيوت وأزقة تساقطت عليها سيرتهم وهم يمرون حاملين يومياتهم التي كانت يوماً كما البشر، قبل أن يسيل دم ودمع الذكريات على أرصفة المدينة التي لم تتوقف عن الحياة يوماً قبل أن تتأهل ليكسوها غبار الصمت بعد غبار الصواريخ.

فأي عدو مجنون هذا اختاره لها التاريخ وأي أبناء بهذه الخفة.

هي أكثر الحروب وحشية في جنونها، وأكثر ما شهدته البشرية من إجرام يزرعه الإسرائيلي الذي لم يتواضع في احتراف الموت بكل الطرق وبكل الأسلحة ترويعاً وتجويعاً وما بينهما من عقل يمارس شهوته الكامنة التي خزنها لثلاثة أرباع القرن منتظراً على طرف المخيم، يتدرب على الفرصة ويذخِّر سلاحه وقد جاءته على طبق من جهل أطاح بمدينة كانت حبلى بالذكريات ... وبالأمل ... قبل أن تطفئ جذوته في عيون الراحلين إلى هناك حيث الخيمة والوجع ... كم يقتلني بكاء رجل لم يعد يحتمل لكثرة ما دفن من الأبناء ولأن الأقدام تشققت لكثرة الرحيل.

وكم هو موجع أن تهرب النساء يحتضنّ الخوف والقهر، وعيون تحجر فيها الدمع خلف سدود المقل وتجلطت فيها العواطف حد الدهشة.

كم هو موجع أن يلقم طفل ما تيسر من تراب اختلط بالبارود لأن العالم لم يستطع إدخال كسرة خبز، ماذا تفعل الحوامل وحديثو الولادة والرضع ؟ يا إلهي الهروب من مجرد التفكير هو النجاة بالعقل حتى لا يصاب بسكته التفكير وبالعطب لأن ما يحدث عصي على التصور، ما هذا ؟

غزة ليست أبنية وشوارع سار عليها البشر.. غزة التفاصيل اليومية؛ الباعة المتجولون وقهوة مزاج وسوق الزاوية وحمام السمرة والجامع العمري وسوق القيسارية بالدكاكين الصغيرة التي تبدو أسطحها كالصحون المقلوبة، غزة هي سوق فراس صباحاً وهو يبدأ يومه يقرأ فاتحة المدينة ويطلق الدماء في شرايينها الحية.... شارع عمر المختار وأنصار وملعب اليرموك وزقاق كل الحواري القديمة في الدرج والتفاح والصبرة والشجاعية وتلة المنطار، غزة هي أنفاس تجلطت عبر الزمن وظلت مبثوثة في أجيال كلٌ يسلم الآخر مفاتيح المدينة.

غزة هي روح الإمام الشافعي .. غزة هي أبهة فهمي بك الحسيني وعظمة آل رضوان .. غزة هي حبر معين بسيسو وأحلام هارون هاشم رشيد ... غزة هي ياسر عرفات وهو يتلو سورة الوطن المقدس على الأبناء ...غزة هي سيرة أخلاق حيدر عبد الشافي وهيبة رشاد الشوا.

غزة هي المدينة التي يتكئ عليها البحر خوفاً من الجفاف وينام مطمئناً لا يخشى القراصنة ... غزة الشاطئ الذي لا ينام حارساً لحبات الرمل التي لا تكف عن مداعبة شعر الموج وعن الصلاة ... غزة هي صدى صوت التاريخ الطويل الموزع في الجرار المدفونة فيها والتي ترشح بالتعاويذ المقدسة على جنباتها لتحميها من الغزاة لكنها تكتب نهايتها على يد الفاشي الجديد وجهل الأبناء ؟

من الذي أقنع صاحب القرار بأن لديه من السلاح ما يمكن أن يحمي المدينة وتاريخها وناسها وأطفالها وبيوتها وشيوخها ونساءها ؟ كيف كان يفكر وهو يقرر هذا الهجوم الكبير دون أن يعرف ما هي إسرائيل كحاملة طائرات تجثو على اليابسة ومخزن أسلحة للبنتاغون ومفاعل ذري وطائرات وفوق كل هذا عقل مختل جاهز للسحق والإبادة، كيف خطرت له أن يغامر بأبهى كنوز التاريخ ؟ وبدموع البشر ؟ ها هي المدينة تخلع ذاتها وتودع ذاتها. فهذه ليست ككل الحروب وإسرائيل ليست ككل الغزاة فقد تم تجفيف المدينة وحرقها ويتم طرد سكانها لتكتب صفحتها الأخيرة بلا طقوس الوداع.

كيف حدث كل هذا ؟