مـا بعـد الإبـادة: أيُّ طريـقٍ أمام عمل الفلسطينيات؟
نشر بتاريخ: 2025/11/09 (آخر تحديث: 2025/11/10 الساعة: 01:06)

رغم أن الحرب على قطاع غزة لم تتوقف بعد، وأن ملامح المرحلة الجديدة بعد خطة ترامب لا تزال غامضة، فيما لا تتوقف آثارها طويلة الأمد عن النزيف، تجد النساءُ الفلسطينياتُ أنفسهن في قلبِ مرحلة انتقالية لا تقلُّ قسوةً عن زمن الحرب نفسه. يتلمسن طبيعة هذه المرحلة، ويثرن الحوارات المفتوحة حول سؤال مركزي: ما العمل؟ كيف يُعاد بناء الإنسان والحياة والمجتمع؟ وما الدور المطلوب أن تضطلع به النساء في مسارات التعافي والعدالة؟

الجواب لا يمكن أن يكون إغاثيًا فحسب. المطلوب اليوم تحوّل نوعي في التفكير النسوي الفلسطيني: من إدارة الأزمة إلى هندسة التعافي، ومن برامج الإغاثة الطارئة إلى مشروع وطني لإصلاح البنية الحقوقية والاجتماعية وأدوار الفاعلين فيها. المرحلة القادمة تستدعي أن تكون النساء في مواقع القرار بنسبة لا تقل عن 30% في كل اللجان والمجالس والهيئات المرتبطة بالإغاثة والإعمار؛ وهي نسبة تم التوافق عليها سابقاً، لكن المطلوب اليوم هو تعزيزها ورفع سقفها بما يوازي تضحيات النساء وعذاباتهن المركبة.

الجواب أيضًا في عدم اختزال النساء في دور «المستفيدات» من الخدمات، بل تحويلهن إلى شريكات كاملات في رسم السياسات وصنع القرار؛ أي ربط الأموال الدولية والموازنات المرتبطة بالإغاثة والإعمار بمعايير واضحة للعدالة الجندرية والشفافية والمساءلة. فالتعافي لا يُقاس بالإسمنت وحده، بل بأدوات قياس ومؤشرات رقمية ونوعية، تأخذ في الاعتبار أن ما دمّرته هذه الحرب الهمجية – بشهادات نساء غزة – يتجاوز الجدران إلى الإنسان نفسه. النساء اللواتي فقدن أبناءهن، وبيوتهن، ومصادر عيشهن، يحتجن إلى خطة إنسانية تعيد إليهن الكرامة والحماية والقدرة على الفعل: مراكز وعيادات صحية، وخاصة العيادات الإنجابية والنفسية والاستشارية، تُنشأ بدايةً بشكل متنقل؛ برامج تمكين اقتصادي حقيقية؛ وخدمات تراعي الخصوصية والأمان في الملاجئ والمناطق المدمرة.

أسفرت الإبادة عن وجود ما يقارب (22,000) أرملة تحوّلن إلى رئيسات للأسر وصاحبات واجب الإعالة. هذا التحوّل يفرض تصميم برامج متخصصة للتعافي الاقتصادي، من خلال تقديم مشاريع صغيرة ومتوسطة للنساء، وتوفير فرص عمل متساوية، وتشجيع إنشاء التعاونيات النسوية. كما يفرض إيلاء مسألة الملكية الخاصة للنساء اهتماماً خاصاً، إذ تضيع خلال الحروب بفعل مبادرة الرجال غالباً لتسجيل الممتلكات بأسمائهم؛ وهو ما وثقته مؤسسات نسوية في غزة خلال حرب 2014، كأحد أهم الاستخلاصات التي تشير إلى واجب حماية ملكية النساء، وتعزيز الوعي، والمبادرة إلى التسجيل والتوثيق.

أما القوانين التي تمسّ حياة النساء، بدءًا من قانون انتخاب المجلس الوطني وقانون الانتخابات المحلية، فإنها تفتح مسارات جديدة لمشاركة المرأة في البنى القيادية، خاصة بعد صدور مرسوم انتخاب المجلس الوطني الذي يتبنى كوتا نسائية بواقع 30% من المقاعد من أصل 350 مقعدًا، بما يتيح الفرصة لمشاركة 105 عضوات، بينهن 60 عضوةً من الضفة الغربية وقطاع غزة.

وعلى صعيد الحكم المحلي، ومع اقتراب موعد إجراء الانتخابات المحلية الدورية، يُفتح الطريق أمام مشاركة القيادات النسوية في خمسة وعشرين مجلساً بلدياً في قطاع غزة، بعد توقف الانتخابات منذ عام 2005، في وقت تبدو فيه غزة بأمسّ الحاجة إلى بلديات منتخبة منخرطة في إعادة البناء.

غير أن أهمية فتح باب الانتخابات لا تعني التغاضي عن النقاش الدائر حول التوجّه الحكومي لتبنّي نظام القائمة النسبية المفتوحة، المرفوض من قبل مؤسسات المجتمع المدني ومنتدى النوع الاجتماعي في الحكم المحلي منذ طرحه لأول مرة عام 2016، ثم تجديد رفضه لدى طرحه في عهد الحكومة الثامنة عشرة، قبل أن يبدو اليوم في حكم المُقَرّ في عهد الحكومة التاسعة عشرة، خلافًا للملاحظات النقدية المقدَّمة عليه.

في المقابل، فإن منظومة القوانين الأخرى – من قانون الأحوال الشخصية إلى قانون العمل والضمان الاجتماعي – تحتاج إلى مراجعة عاجلة تمهّد لإصلاحها على قاعدة القانون الأساسي ووثيقة الاستقلال، وبما يضمن عدم السماح بأي شكل من أشكال التمييز، والالتزام الواضح بمبدأ الحقوق المتساوية. فالإصلاح القانوني اليوم ليس رفاهية أو تفصيلًا شكلياً، بل ضرورة لإعادة بناء العقد الاجتماعي الفلسطيني على أسس العدالة والمساواة.

إلى جانب البُعد الإنساني، ثمة ضرورة ملحّة لاستعادة فلسطين لمسارها الحقوقي، عبر تفعيل اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة بعيدًا عن أجواء التوتر والجدل، بل كإجراء وطني مؤسساتي هادئ يعيد انتظام التقارير الرسمية وتقارير الظل والتقارير الموازية، بما يعيد الاعتراف بالنساء الفلسطينيات كصاحبات حق وعدالة. وبالتوازي، لا بد من تطوير قراءة جديدة للقرار الأممي 1325 وركائزه الأربع، بما يستوعب مستوى حرب الإبادة والمستجدات على الأرض وأدوار النساء المتجددة، واستمرار تقديم التقارير الطوعية ذات الصلة.

وأخيراً، إن مستقبل العمل النسوي الفلسطيني لن يُبنى على خطاب الضحايا وحده، بل على خطاب القيادة والمسؤولية. النساء اللواتي صمدن في الميدان قادرات على قيادة مرحلة التعافي القادمة بعقل سياسي وحقوقي متماسك، يوازن بين الإنسان والعدالة، وبين الوطن والكرامة. المرأة الفلسطينية ليست هامشاً في عملية التعافي… بل بوصلته. ومن دون قيادتهن، لن تكون هناك عدالة، ولا مستقبل يستحق هذا القدر من التضحيات.