دلالات فوز ممداني في نيويورك
نشر بتاريخ: 2025/11/11 (آخر تحديث: 2025/11/11 الساعة: 16:31)

تنطوي انتخابات المجالس المحلية والمجالس التشريعية والحكام لبعض الولايات الأميركية على دلالات مختلفة وبالغة الأهمية، فهي إضافة الى أنها تندرج ضمن التنافس التقليدي بين الحزبين الجمهوري والديموقراطي، على القاعدة المجتمعية، فإنها تظهر في الوقت نفسه مؤشرات على وجهة الناخبين بعد مضي عام على انتخابات الرئاسة والكونغرس التي جرت قبل عام، وانتصر فيها الحزب الجمهوري بشكل ساحق، كما أنها مهمة بدرجة أعلى من استطلاعات الرأي، كونها تجري قبل عام من الانتخابات النصفية للكونغرس، وقبل ثلاثة أعوام على الانتخابات الأهم، أي انتخابات الرئاسة والكونغرس التي ستجري في العام 2028، وتعتبر مبدئياً الكفة فيها متعادلة، كون الجمهوريين مضطرين لتقديم مرشح غير الرئيس، وإن كانوا يحاولون منذ الآن حسم أمرهم، بالحديث عن نائب الرئيس جي دي فانس كمرشح رئاسي، لأن من شأن حسم اسم المرشح الرئاسي مبكراً، ان يزيد من قوته في مواجهة منافسه الديموقراطي في الانتخابات الحاسمة.

هذه الانتخابات التي جرت قبل أسبوع، أظهرت قوة متصاعدة، بل باتت ملحوظة ومؤثرة، وبهذا الشكل أو على هذا النحو المتصاعد، فإنه من المتوقع أن يتصاعد دورها في الانتخابات النصفية بعد عام، والانتخابات الرئاسية بعد ثلاثة أعوام، ونقصد بهذه القوة المتصاعدة، اللوبي المسلم، والذي يأتي تصاعد تأثيره في الحياة السياسية الأميركية على حساب اللوبي اليهودي، الذي تحكم تقليدياً في نظام الحكم وفي مجمل السياسة الأميركية خاصة تجاه الشرق الأوسط، وقضيته المركزية _القضية الفلسطينية، وحسب مجلس العلاقات الاسلامية الأميركية «كير» فقد ترشح لتلك الانتخابات 76 مرشحاً مسلماً، فاز منهم 38، أي اكثر من نصفهم بقليل، وهذا امر مهم للغاية، يدل على أن حسابات وتقديرات اللوبي المسلم، دقيقة جدا، وهو يتقدم بمرشحيه، ليس من أجل الدعاية الانتخابية وحسب، بل من أجل الفوز، وهذا أمر يعتبر تاريخياً بكل المقاييس، ولعل فوز المسلم زهران ممداني بمنصب عمدة نيويورك، وغزالة هاشمي بمنصب نائب حاكم ولاية فرجينيا، يعتبر الأبرز، لما له من دلالات واهمية على اكثر من صعيد.

رغم هذا الإنجاز للصوت المسلم، إلا أن الإعلام يركز على فوز زهران ممداني بمنصب عمدة نيويورك، رغم ان التنافس بينه وبين منافسه الجمهوري كان منتهياً _تقريبا_ نظراً للفارق الكبير في استطلاعات الرأي قبل وقت طويل من يوم الاقتراع، كذلك كان فارق التصويت بينه وبين أندرو كومو المرشح المستقل الذي كان ديموقراطياً، قبل ان يهزمه ممداني في الانتخابات الداخلية للحزب على مرشحه للمنصب في مواجهة المرشح الجمهوري، لكن مع اقتراب يوم الاقتراع، ونظرا لتدخل الرئيس دونالد ترامب نفسه، ونظراً لأن وعود وشعارات ممداني أخذت منحى سياسياً، حين عبر بوضوح عن كنه برنامجه الاشتراكي الديموقراطي، ليس فقط فيما يخص الانحياز للفقراء من سكان نيويورك، وتحقيق بعض من العدالة الاجتماعية بتوفير المواصلات العامة مجاناً، وحماية الفقراء فيما يخص السكن، وزيادة الضرائب على الأثرياء، الذين بالطبع وقفوا ضده مع ترامب، حيث ان نيويورك تضم 123 مليارديراً و384 ألف مليونير، فيما يستحوذ 5% من سكانها على 40% من إجمالي الدخل، أي ان الفارق الطبقي متسع جداً في هذه الولاية التي تضم 20 مليون مواطن، وبمساحة 140 ألف كم2، أي انها تعادل دولة أوروبية !

لكن بلدية نيويورك تحتوي على 8 ملايين مواطن، وصحيح أن عمدة نيويورك يعتبر مسؤولا محلياً عن خدمات المدينة، وهو منصب اقل اهمية بكثير من منصب حاكم الولاية، الذي يعتبر بمثابة رئيس دولة داخل الاتحاد الفدرالي، حاكماً لعشرين مليوناً، منوط به تطبيق قوانين الولاية ولا تقتصر وظيفته على الخدمات المحلية وحسب، ولكن جاء فوز ممداني ضمن اكتساح ديموقراطي لتلك الانتخابات، وإذا كان ترامب تدخّل بشكل فاضح في محاولة لمنع فوز ممداني، بمطالبة الناخبين بالتصويت لخصمه الديموقراطي _ المستقل، الذي اعتبره ديموقراطياً سيئاً في مواجهة «شيوعي» حسب وصفه، فإن خصمه التاريخي الرئيس الديموقراطي الأسبق باراك اوباما وقف الى جانب ممداني والمرشحين الديموقراطيين عموماً.

وبغض النظر عن حقيقة أن ممداني لا يستطيع خوض التنافس على رئاسة البلاد لأنه ليس من مواليد البلاد، نشير الى انه لم يسبق لعمدة مدينة مهما كانت مهمة،

ان وصل لمنصب رئيس الدولة الفدرالية، ولا حتى لمنصب نائب الرئيس، ولعل محاولة توم برادلي اول رئيس بلدية أسود لمدينة لوس انجليوس، والذي يعتبر بحق افضل رئيس بلدية في النصف الثاني من القرن العشرين، الفوز بمنصب حاكم ولاية كاليفورنيا، وذلك اكثر من مرة لكنه فشل، هذا رغم انه أمضى عشرين سنة عمدة للوس انجلوس ما بين عامي 1973_1993. لكن ممداني رسم الطرق لفوز حزبه في خطاب النصر الذي أشار فيه الى حزبه الديموقراطي، قائلاً بأن هذا هو الطريق لهزيمة ترامب ومساره السياسي، أي انه يحاول أن يرسم خطاً سياسياً حاسماً ومعاكساً تماماً للخط الجمهوري، الذي ظهر من خلاله جو بايدن وكمالا هاريس كظل للسياسة الأميركية الشعبوية، في التعامل مع العالم الخارجي بمنطق الدولة التي تهيمن منفردة على النظام العالمي، والتي تتعامل داخلياً بما يزيد من ثراء المليارديرات، ولعل انحياز ايلون ماسك وشراكته مع ترامب إبان الانتخابات السابقة خير دليل على ذلك.

إن دلالات فوز ممداني بالغة الأهمية، وهي لا تؤكد فقط «عودة الروح» للحزب الديموقراطي في منافسته التقليدية للحزب الجمهوري، بل تعني تصاعد قوة الجناح الذي يوصف بأنه يساري في الحزب، وهو ذو محتوى وجوهر اشتراكي، كذلك يؤكد بأن أميركا تتغير من الداخل، ولعل فوز ممداني بالذات جاء رداً على الانحياز التقليدي الأعمى الأميركي لإسرائيل، حتى وهي تُقاد من قبل يمين متطرف فاشي، ذلك الانحياز الذي ظهرت عليه واشنطن خلال ولايتي بايدن وترامب، ولم يكن من فارق بينهما، إلا فيما هو شكلي، وحيث ان القوة الناخبة لممداني كانت من الشباب في مثل عمره وأقل، اي من الجيل الجامعي اليوم، الذي انخرط بقوة في التظاهرات المنددة بحرب الابادة الجماعية الاسرائيلية، فإن هذه القوة الناخبة سيزداد شأنها وتأثيرها على الانتخابات النصفية للكونغرس وحكام الولايات التي ستجري العام القادم، وستكون القوة التي تسحم انتخابات الرئاسة والكونغرس عام 2028.

واذا كان الحزب الديموقراطي، مع صعود جناحه اليساري الذي قاده منذ سنوات بيرني ساندورز، مؤهل اكثر من الحزب الجمهوري لقيادة هذا التحول، الذي سيؤدي الى «توازن» داخلي بين الفقر والثراء، وبما يحفظ تقاليد الدولة الديموقراطية، ويسحق ما ظهر من إرهاصات عنصرية خلال ولايتي ترامب، ويؤدي كذلك إلى «توازن خارجي» يجعل من قيادة النظام العالمي قيادة جماعية توافقية، بدلاً من القيادة المنفردة الأميركية التي باتت مستحيلة، والإصرار عليها قد يؤدي الى اصطدام عسكري بين الجيوش النووية، فإن الحزب الجمهوري ليس أمامه إلا الخروج من المسار الذي حشره فيه ترامب، ولذلك فإنا نعتقد بأنه على عكس ما يحاول فعله الحزب الجمهوري مبكراً، من حسم اسم مرشحه الرئاسي لعام 2028، باختيار جي دي فانس أو مارك روبيو، نعتقد بأنه سيضطر خلال الثلاث سنوات القادمة الى تغيير هذه الوجهة، وربما يكون لـ «ماجا» مجموعة ترامب الانتخابية نفسها دور حاسم في هذا الأمر.

ولعل ترامب نفسه «البراغماتي» وبحسابات رجل الأعمال، الذي سارع فور فوز ممداني في نيويورك الى القول بأن عدم وجود اسمه في ورقة الاقتراع هو سبب هزيمة حزبه، والى القول بأنه على استعداد للتحدث مع ممداني، لكنه طالبه بإظهار الاحترام له ولواشنطن، هذا رغم انه سبق لترامب أن هدد نيويورك بحجب أموال الدعم الفدرالي والتي تبلغ مع ما تقدمه لها حكومات الولايات الأخرى نحو نصف ميزانية البلدية، إضافة لما تجبيه نيويورك من أموال الضرائب.