في لحظة مفصلية من التاريخ الفلسطيني، وقف ياسر عرفات أمام الجمعية العامة عام 1974 مردداً عبارته الشهيرة "جئتكم حاملا غصن الزيتون بيد وبندقية الثائر باليد الأخرى، فلا تسقطوا غصن الزيتون من يدي".لم يكن ذلك الخطاب ذروة بلاغية عابرة، بل خلاصة مسار تاريخي بدأ مع انطلاقة حركة فتح، وبلور عبر منطمة التحرير الفلسطينية وتحول إلى ما عُرف بالثورة الفلسطينية المعاصرة بوصفها حركة تحرر وطني ذات تمثيل شرعي جامع للشعب الفلسطيني.
لفهم هذا الخطاب ومعناه، لا بد من العودة إلى منتصف ستينيات القرن الماضي. قبل انطلاقة فتح عام 1965، لم يكن الفلسطيني يملك فعلا وطنيا مستقلا. كانت القضية الفلسطينية موزعة بين الوصاية العربية، والخطاب القومي العام، والإدارة الخارجية، فيما ظل الفلسطيني ذاته غائبا كفاعل سياسي مستقل. فعل فتح لم يكن مجرد إعلان الكفاح المسلح، بل إطلاق الثورة الفلسطينية كفعل وطني ذاتي، يقوده الفلسطينيون باسمهم، ويعبر عنهم كجماعة سياسية واحدة. هنا بالضبط وُلد مفهوم القرار الفلسطيني المستقل.
هذا الفعل التأسيسي سرعان ما ترجم نفسه داخل منظمة التحرير الفلسطينية. عام 1969، انتقلت قيادة المنظمة إلى الفصائل الوطنية وفي مقدمتها فتح، فتحولت من إطار رسمي عربي الطابع والقرار إلى كيان ثوري يمثل الفلسطينيين في الداخل والشتات. منذ تلك اللحظة، لم تعد فتح مجرد حركة فدائية، بل أصبحت العمود الفقري للثورة الفلسطينية، والإطار الذي جمع المقاومة المسلحة، والعمل السياسي، والتمثيل الشرعي في بنية واحدة. بهذا المعنى، لم تكن المقاومة منفصلة عن السياسة، بل جزءا عضويا من مشروع وطني متكامل.
معركة الكرامة عام 1968 شكّلت أول شاهد رمزي على هذا التحول. لم تكن نصرا عسكريا حاسما، لكنها أعادت تعريف صورة الفلسطيني في الوعي الجمعي، من لاجئ منكسر إلى فدائي مقاتل، ومن ضحية صامتة إلى صاحب قضية. من الكرامة إلى بيروت، ومن بيروت إلى المنابر الدولية، تشكلت سردية الثورة الفلسطينية بوصفها حركة تحرر وطني ذات قيادة وهوية وأفق سياسي.
حين وقف عرفات على منصة الأمم المتحدة، لم يكن يمثل تنظيما بعينه، بل كان يجسد شرعية منظمة التحرير بوصفها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، كما اعترفت بها الجمعية العامة. غصن الزيتون والبندقية لم يكونا ازدواجية متناقضة، بل معادلة ثورية دقيقة، مقاومة تحمي الحق، وسياسة تحوّل هذا الحق إلى اعتراف دولي وكيانية وطنية سياسية. هذه المعادلة هي جوهر مقاومة منظمة التحرير، والفارق الجوهري بينها وبين أي فعل مسلح منفصل عن المشروع الوطني.
في هذا السياق، لا يمكن وضع مفهوم المقاومة الذي صاغته منظمة التحرير، ومارسته فتح في انطلاقتها، على قدم المساواة مع الفعل الذي قدمته لاحقا حركة حماس. فالمقاومة عند المنظمة كانت جزءا من مشروع تحرري وطني، مرتبطا بالتمثيل الشرعي، وبوحدة الشعب، وببناء كيان سياسي فلسطيني معترف به. أما حماس، فقد نشأت خارج هذا الإطار، وخارج الوطنية الفلسطينية، ووضعت نفسها منذ البداية في مواجهة بنيوية مع منظمة التحرير، لا باعتبارها سلطة سياسية فحسب، بل باعتبارها المرجعية الوطنية الجامعة.
جذور حماس تعود إلى “المجمع الإسلامي” المرتبط ب جماعة الاخوان المسلمين، والذي تم تأسيسه بقرار اسرائيلي، وحظي بشواهد تاريخية موثقة، بتدعم وتسهيلات مباشرة من الاحتلال الإسرائيلي في السبعينيات والثمانينيات. في الوقت الذي كانت فيه كوادر الثورة الفلسطينية تُلاحق وتُغتال وتُقمع، سُمح لهذا التيار ببناء المساجد والجمعيات وتوسيع نفوذه الاجتماعي. لم يكن ذلك خطأ تقدير، بل سياسة إسرائيلية واعية هدفت إلى استنزاف طاقة الشباب خارج الفعل الوطني، وضرب الحركة الوطنية الفلسطينية من الداخل، عبر تشجيع بديل أيديولوجي ديني يفتت الإجماع الوطني ويكسر احتكار منظمة التحرير للتمثيل.
هذا السياق يفسر طبيعة فعل حماس لاحقا. فكل فعل سياسي أو عسكري قامت به كان فعلا تكتيكيا براجماتيا، يتحرك وفق مصلحة التنظيم الإخواني وسلطة الأمر الواقع، لا وفق استراتيجية تحرر وطني فلسطينية تراكمية. المقاومة هنا ليست طريقا لبناء كيان وطني، بل أداة لإدارة الصراع، أو لتثبيت حكم، أو لإعادة تعويم الدور السياسي عند كل مأزق. لا يوجد مشروع وطني جامع، ولا رؤية لكيانية فلسطينية واحدة.
اللحظة الفاصلة التي كشفت هذا التناقض كانت عام 2007، حين سيطرت حماس على غزة بالقوة. هذا الحدث لم يكن مجرد صراع داخلي على السلطة، بل ضربة مباشرة للكيانية الفلسطينية، ولفكرة التمثيل الشرعي الواحد، وجوهر الثورة الفلسطينية التي قامت أصلا لتوحيد الشعب حول مشروع تحرري جامع. ما عجز الاحتلال عن فرضه عسكريا، تحقق فلسطينيا عبر الإنقلاب والانقسام، فتفككت الجغرافيا السياسية، وتحولت غزة إلى كيان معزول، وسقطت وحدة التمثيل، وهو أعظم إنجازات منظمة التحرير.
في المقارنة التاريخية، يتضح الفارق بجلاء. فتح ومنظمة التحرير حولتا المقاومة إلى أداة لبناء الشرعية الدولية والكيانية الوطنية. حماس حوّلت ما سُمي بالمقاومة إلى غاية بذاتها، وإلى أداة سلطة، وإلى وظيفة دائمة لإدارة الصراع لا حسمه. بعد سنوات طويلة من حكم غزة، لم يتحقق أي إنجاز وطني قابل للتراكم، لا أرض حُررت، ولا حصار فُك، ولا كيان وطني تعزّز. ما تحقق هو سلطة قهرية فئوية مغلقة، وانقسام عميق، واقتصاد جباية، ومجتمع منهك.
الأخطر أن هذا المسار، بحكم نتائجه لا نواياه المعلنة، تماهى موضوعيا مع مخططات الاحتلال في إضعاف الحركة الوطنية الفلسطينية، وضرب منظمة التحرير والكيانية الفلسطينية، وتفريغ الثورة الفلسطينية من مضمونها السياسي. فإسرائيل لم تجد أفضل من واقع فلسطيني منقسم، ومقاومة بلا مشروع، لتبرير عدوانها الدائم وتسويق مقولة لا شريك فلسطيني.
هنا يعود خطاب عرفات في الأمم المتحدة بوصفه معيارا تاريخيا. ذلك الخطاب لم يكن نهاية مرحلة، بل تعبيرا عن جوهر الثورة الفلسطينية كما صاغتها فتح ومنظمة التحرير، مقاومة تخدم السياسة، وسياسة تحمي الكيانية الوطنية. ما جرى لاحقا كان انقلابا على هذه المعادلة، حين تحوّل الفعل المقاوم إلى تكتيك منفصل عن الوطن، وحين أصبحت المعاناة رصيدا سياسيا لا مأساة يجب إنهاؤها.
الخلاصة أن المقارنة ليست بين تنظيمين، بل بين مشروعين تاريخيين. مشروع الثورة الفلسطينية الذي انطلق مع فتح، وتجسّد في منظمة التحرير، وحقق التمثيل الشرعي والهوية الوطنية، ومشروع مضاد تفكك فيه الوطن لصالح التنظيم، وتُستنزف فيه التضحيات بلا أفق تحرري من أجل مصالح فئوية عابرة للوطنية الفلسطينية. بين هذين المسارين، لا يترك التاريخ مساحة للالتباس، فإما ثورة تبني وطنا، أو فعل يهدم كيانيته وهو يرفع رايته.