نشر بتاريخ: 2022/11/10 ( آخر تحديث: 2022/11/10 الساعة: 10:29 )
نبيل عمرو

عرفات.. ما قبل وما بعد

نشر بتاريخ: 2022/11/10 (آخر تحديث: 2022/11/10 الساعة: 10:29)

سألتني حفيدتي سارة التي تواظب على قراءة كتبي، ‏لماذا يحتل ياسر عرفات مكان المركز في جميع ‏مؤلفاتك؟؟

أجبتها لأنه يحتل مكان المركز في حياتنا..‏

ونحن الآن في ذكرى غيابه نجد أنفسنا بأمس الحاجة ‏لتذكره.. ذلك أن الرجل كان صاحب أطول عمر ‏قضاه على القمة فإن أرخّنا له منذ إطلاق رصاصة ‏الثورة الأولى، فعمره أكثر من نصف قرن، ومنذ ‏ذلك اليوم ظل الرجل صاعدا بلا توقف او إعاقة ‏حتى بلغ القمة واستقر عليها بما يزيد عن أربعة ‏عقود.‏

لم يكن طول عمر قيادته هو السبب الأهم في احتلاله ‏مكان المركز في حياتنا، بل لكونه كان مجمع ‏اعتبارات جاذبة، استقطبت وراء وصول قيادته ‏أوسع القطاعات الشعبية الفلسطينية وامتداداتها ‏التحالفية والتعاطفية على مستوى العالم كله، فصار ‏إلى جانب قيادته الفعلية للثورة رمزا وعنوانا لها.. ‏لتسري ظاهرته على مستوى شعوب العالم سريان ‏النار في الهشيم، ولترتدي الملايين كوفيته الشهيرة ‏كتعبير عفوي وتلقائي عما تمثل الكوفية ويمثل ‏صاحبها. ‏

الوصول إلى القمة أسهل بكثير من الاحتفاظ بها.‏

كان الفلسطينيون بحاجة إلى نمط زعامي مختلف عن ‏كل من سبقه في احتلال موقع القمة، فوجدوا في ‏لابس الكاكي وحامل البندقية ضالتهم المنتظرة، وكان ‏الظرف الذي ظهر فيه مواتيا تماما لملء فراغات ‏فلسطينية وعربية. ‏

فملأت الرصاصة الأولى فراغ الفعل الفلسطيني، ‏وهيأت هزيمة حزيران إلى اعتماد البديل على ‏المستوى العربي، وعزز ذلك معركة الكرامة التي ‏سجلت الانتصار الأول بعد الهزيمة الكبرى. ولم يكن ‏مجرد رد فعل دعائي، ذلك الشعار التاريخي الذي ‏أطلقه زعيم الامة جمال عبد الناصر. "أن الثورة ‏الفلسطينية وجدت لتبقى".‏

احتل ياسر عرفات رسميا وقانونيا وفعليا ودون ‏اختلاف الموقع الأعلى أي رئاسة منظمة التحرير ‏التي كانت بمثابة إطار جبهوي مجمع عليه وبوسعنا ‏اعتبار مكانته الجديدة بداية المرحلة الأهم في قيادته.‏

وإذا كان طريق الصعود ممهدًا إلا أن عمل الرئاسة ‏والقيادة لم يكن كذلك.. إذ دخل الرجل والثورة سلسلة ‏معارك من أجل البقاء، فخسر ساحات هامة وكسب ‏ساحات بديلة، وما خسر تحول من ميزة له إلى ‏عبء عليه، وما كسب كان الاحتفاظ به مكلفا لثورته ‏وشعبه، إلا أنه ومن معه راكموا رغم الخسارات ‏البشرية والجغرافية رصيدا سياسيا أدخل الثورة ‏وقائدها إلى قلب المعادلات الإقليمية والدولية. ‏

لم يكن ذلك ليحدث لو لم يكن عرفات يتمتع ‏بخصائص قيادية مميزة، وخصوصا على صعيد ‏إدارة بيت الثورة الداخلي وللثورة بيوت كثيرة يتعين ‏على من يحتل مركز القيادة للحالة بشمولها ان يعالج ‏شؤونها جميعا..‏

أولها البيت الفتحاوي الذي كان ممتلئا بالقادة الكبار ‏الاذكياء والمؤهلين والذين يسمون بالمؤسسين ‏التاريخيين، وحولهم صف ثان لا يقل تأهيلا وكفاءة، ‏وفي الدائرة الاوسع حين كانت فتح تنمو باضطراد ‏عالي الوتيرة، كان شبابها ذكورا وإناثا حتى اطفالها ‏الذين أقيمت مؤسسة فعالة من أجلهم "الأشبال" ‏يرفدونها بكل مقومات الحياة والقوة والتغلب على ‏التحديات.‏

وإلى جوار البيت الفتحاوي كانت بيوت نشطة وفعالة ‏تتوالد باضطراد هي ما اصطلح على تسميته ‏بالفصائل والقوى، وكان عليه ومن موقعه كقائد ‏للجميع أن يرعى صيغة توفر وئاما بين كل هذه ‏البيوت ..‏

لم تكن الفصائل في تلك المرحلة هينة ولا سهلة ‏القياد، ورغم كل الصعوبات التي لا مفر منها ‏للتعامل مع قادة كبار، إلا أن الرجل ومن معه نجحوا ‏في صياغة معادلة صحيحة وفعالة في الحفاظ على ‏مستوى من الوئام والتفاهم والتحالف، وصفها ياسر ‏عرفات بديموقراطية البنادق ووصفها جورج حبش ‏بأبلغ ما وصف به ياسر عرفات " نختلف معك ولا ‏نختلف عليك"‏

ومن خلال وضع داخلي متماسك في الإطار الأوسع ‏منظمة التحرير.‏

ومن خلال المواءمة الدقيقة بين الجهد العسكري ‏الصعب والسياسي الأكثر صعوبة مضت السفينة ‏بقيادة ربانها في مسارها الصحيح، متجاوزة ‏المضائق والانواء، وقوة الخصم وإمكانياته، فتكامل ‏الحضور الفلسطيني بتكامل حلقاته الثلاث، الذاتية ‏والعربية والدولية، ذلك أنتج مخاطبة العالم من أعلى ‏منبر حيث اختزل عرفات فلسفة الثورة بجملته ‏البليغة التي ما تزال على قيد الحياة "لقد اتيتكم ‏وبندقية الثائر بيد وغصن الزيتون باليد الأخرى فلا ‏تسقطوا الغصن الأخضر من يدي".