نشر بتاريخ: 2025/07/31 ( آخر تحديث: 2025/07/31 الساعة: 13:14 )
سنية الحسيني

ما الذي يوقف جموح إسرائيل؟

نشر بتاريخ: 2025/07/31 (آخر تحديث: 2025/07/31 الساعة: 13:14)

في حين تتواصل حرب الإبادة في غزة، في ظل تصاعد لأعداد الأطفال الذابلين جوعاً، وبعد أن سقط حوالى ربع مليون مواطن، بين شهيد ومفقود وجريح، وأكثر من ١٥٠ ألف مهجّر على مدار العامين الماضيَين، تأتي تحركات دبلوماسية وسياسية دولية، تمثلت بانعقاد مؤتمر سلام في نيويورك، ووعود بمزيد من الاعترافات بالدولة الفلسطينية. على مدار تلك الحرب، انتزعت إسرائيل عن الفلسطينيين آدميتهم، وحرمتهم من جوهر متطلبات الحياة من مأكل ومشرب ودواء، ومن جميع حقوق الإنسان التي تقرها المنظومة الدولية، أمام أنظار العالم، ومنظماته، وخرقاً لمعاهداته وقوانينه، والتي اعتبرها الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس بأنها أكثر من مجرد أزمة إنسانية، معتبراً ذلك أزمة أخلاقية تتحدى الضمير العالمي، فهل يكفي هذا الحراك الدولي الدبلوماسي والسياسي، في ظل حاجة ملحّة لوقف الحرب ووقف جموح إسرائيل؟

تؤكد أحداث السابع من أكتوبر وما قبلها من ممارسات الاحتلال ضد الفلسطينيين في الضفة وغزة، وبعدها الحرب المدمرة التي تعمل على مسح معالم الحياة في غزة، عدم وجود رؤية لدى دولة الاحتلال تقوم على أساس حل الدولتين، الذي يتبناه العالم، بل ظهرت مؤشرات على نفي وجود الآخر وحقه في الحياة وتقرير المصير والبقاء في أرضه.. وأن الصمت الدولي طوال العقود الماضية على ممارسات إسرائيل لتقويض حل الدولتين، خصوصاً الدول الغربية الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين، في ظل اختلال صارخ في توازن القوى لصالح إسرائيل في الأراضي المحتلة، الذي عملت تلك الدول على ترسيخه بدعم مفرط لإسرائيل على جميع المستويات، كان السبب المباشر لتشجيع إسرائيل ليس فقط على تحدي ذلك الحل بالمضي قدماً في تمهيد الأرض لتغير واقعها جغرافياً وديموغرافياً، بل أيضاً التخطيط للتخلص من الفلسطينيين. قد يكون توجه دول العالم، خصوصاً الغربية، خلال الحرب الدائرة في غزة للاعتراف بالدولة الفلسطينية، والذي توج بوعود فرنسية وبريطانية بذلك، ودول غيرها قد تتبعها، في شهر أيلول القادم، في انقلاب على الموقف الأوروبي العام، يأتي في سبيل التكفير عن ذنبها، لما وصلت إليه الأمور في فلسطين، بعد عقود على المماطلة والتسويف بحق الفلسطينيين. كما أن التصريحات التي جاءت خلال اليومين الماضيَين في مؤتمر السلام في نيويورك بمبادرة فرنسية - سعودية، وركزت بشكل لافت على ضرورة تفعيل حل الدولتين وإنهاء الاحتلال، يؤكد على تلك النتيجة المتعلقة بالتكفير عن الذنب. ولكن السؤال الذي يلوح اليوم والموجه لذات الدول الغربية، هل تكفي تلك المبادرات السياسية والدبلوماسية، بالاعتراف بالدولة الفلسطينية وإعادة تفعيل فكرة حل الدولتين في المؤتمرات والمنابر الدولية، في ظل استمرار حرب القتل والتجويع في غزة دون توقف، وفي ظل ممارسات الاحتلال في الضفة التي تواصل تغيير واقع الفلسطينيين الجغرافي والديموغرافي دون رادع، أم أنه قد آن الأوان لمواقف عملية رادعة تلجم جموح إسرائيل؟

خلال اليومين الماضيين عقد مؤتمر الأمم المتحدة تحت عنوان «التسوية السلمية للقضية الفلسطينية وتطبيق حل الدولتين»، برعاية فرنسية - سعودية. وضع المشاركون في المؤتمر اقتراحات لوقف الحرب على غزة، واعتماد مسار لحل سياسي ينهي الاحتلال في الأراضي الفلسطينية. فقد دعا وزير الخارجية الفرنسي جان نويل بارو إلى جعل المؤتمر «نقطة تحوّل» لتنفيذ حل الدولتين والانتقال من نهاية الحرب على غزة إلى إنهاء النزاع. اعتبر وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان آل سعود المؤتمر «محطة مفصلية» لإنهاء الاحتلال، مؤكداً أن مبادرة السلام العربية هي أساس لأي حل عادل وشامل للقضية الفلسطينية، وأن تحقيق الأمن والازدهار في المنطقة يبدأ من إنصاف الشعب الفلسطيني، وفي مقدمة ذلك إقامة دولة فلسطينية على حدود عام ١٩٦٧، وعاصمتها القدس الشرقية، مؤكداً أن «دولة فلسطينية مستقلة هي مفتاح السلام في المنطقة». واعتبر الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس أن حل الدولتين هو الإطار الوحيد المتجذر في القانون الدولي الذي أقرته الجمعية العامة والمدعوم دولياً، معتبراً أن النزاع الحالي في غزة يزعزع الاستقرار في المنطقة والعالم بأسره، وأن إنهاءه يتطلب إرادة سياسية، وذلك يشكل فرصة ونقطة تحوّل حاسمة تجاه إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية. وأكدت وزيرة خارجية كندا، أنيتا آناند، على تصريحات غوتيريس، معتبرة أن حل الدولتين هو المسار الوحيد القابل للتطبيق لتحقيق السلام للفلسطينيين والإسرائيليين، مشددة على ضرورة الذهاب في مسار مختلف يقود لحل مستدام وعادل. وأكدت ممثلة إيرلندا أن المؤتمر «فرصة لإظهار روح المسؤولية المشتركة لإيجاد حل سياسي لهذا النزاع المدمر»، واصفة ما يحدث في غزة بأنه «صفعة على جبين الإنسانية». وأكد وزير الخارجية الإسباني، خوسيه مانويل ألباريس، ضرورة تأسيس دولة فلسطينية قابلة للحياة تجمع بين الضفة الغربية وغزة مع وجود ميناء في القطاع، وعاصمة في القدس الشرقية»، معتبراً أن السلطة الفلسطينية «الجهة الشرعية الوحيدة لضمان إدارة قطاع غزة». وأشار الأمين العام لجامعة الدول العربية، أحمد أبو الغيط، إلى أن تصور إسرائيل بالحصول على التطبيع مع استمرار الاحتلال محض وهم. حملت تلك المداخلات المهمة رؤية تحمل تشخيصاً دقيقاً لما آلت إليه القضية الفلسطينية اليوم، ومقترحات تصلح خارطة طريق لحل مستدام لأزمة طالما أرّقت الشرق الأوسط والعالم، ولكن السؤال المهم متى يمكن ترجمتها لخطوات عملية قابلة للتنفيذ؟ وهل هناك موقف محدد ومشترك في حال واصلت إسرائيل تعطيل مثل تلك الخطوات؟

جاءت تصريحات فرنسا قبل أيام عن نيتها الاعتراف بالدولة الفلسطينية في أيلول المقبل، ولحقتها تصريحات بريطانية، ويعد ذلك ذا أهمية سياسية كبيرة، خصوصاً بسبب مكانة البلدين. ويكسر ذلك التوجه للبلدين موقفاً غربياً عاماً يرفض الاعتراف بالدولة الفلسطينية، تتبناه الولايات المتحدة، ويتبعها في ذلك بشكل رئيس حلفاؤها الغربيون. ورغم ادعاء الولايات المتحدة والدول الغربية بتبني حل الدولتين، إلا أن تلك الدول ظلت ترهن ذلك الحل بالمفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين، في ظل ثلاثة عوامل تتمحور حول رفض إسرائيل للتفاوض، ومواصلة إسرائيل تقويض مستقبل وجود الدولة الفلسطينية، والدعم الغربي المطلق لإسرائيل وربط العلاقة بالفلسطينيين ضمن الرؤية الأميركية الإسرائيلية.

يعترف بفلسطين اليوم أكثر من ٧٧ في المائة من دول العالم، فمعظم دول القارة السوداء واللاتينية والآسيوية تعترف بفلسطين، بينما تتمركز الدول الرافضة للاعتراف بها في الجزء الشمالي من العالم في أوروبا وأميركا الشمالية. فعشر دول من العشرين الكبار تعترف بفلسطين، ودولتان من الدول الخمسة الدائمة العضوية في مجلس الأمن كذلك، إلا أن معظم دول الاتحاد الأوروبي لا تزال غير معترفة بفلسطين، كما أن الدول السبع الكبار جميعاً لا تعترف بفلسطين. من هنا تبدو أهمية اعتراف فرنسا وبريطانيا ودول أوربية أخرى، والتي بدأت تروج لإمكانية الاعتراف، فتغير تلك التطورات من التوجه العالمي للاعتراف بفلسطين والذي تأثر بالتعطيل الغربي، لكنه لم يؤثر على الاعتراف بفلسطين بشكل عام.

انتزعت فلسطين على مدار عقود الاعتراف الدولي في معركة دبلوماسية طويلة، خاضتها بعد تأسيس منظمة التحرير عام ١٩٦٤. وبدأ ذلك بالاعتراف بمنظمة للتحرير في الأمم المتحدة ككيان ممثل للشعب الفلسطيني عام ١٩٧٤، والذي تبعه الاعتراف بها من قبل جامعة الدول العربية والمنظمة الأفريقية ودول عدم الانحياز. وبمجرد إعلان المنظمة عن قيام دولة فلسطين في العام ١٩٨٨ اعترفت بفلسطين ٩٣ دولة، معظمها غير أوروبية، باستثناء الدول التي كانت تابعة للاتحاد السوفياتي، في تطور دبلوماسي وسياسي يعكس دعم دول الجنوب للقضية الفلسطينية.

أحدث اتفاق أوسلو تطوراً مهماً في مفهوم الاعتراف بفلسطين. وتتطلب نظرية الاعتراف بالدول السائدة قانونياً ضرورة توافر أربعة عوامل لتحقيق الاعتراف، وهي وجود أرض يسكنها شعب وتديرها حكومة ذات سيادة، وتكون قادرة على بناء علاقات في المجتمع الدولي. وفرت اتفاقيات أوسلو العنصر الخاص بوجود الحكومة، في ظل تأكيد الوثائق الرسمية الدولية توفر العنصرين الأوليَين. ووفق القانون، تبقى الحكومة الممثلة من قبل الشعب المحتل صاحبة السيادة، حتى وإن بقيت السلطة أو جزء منها في يد المحتل. ولأن السلطة الفلسطينية تمتلك الشكل القانوني للحكومة وتداولها، حتى في ظل بعض الخروقات، ولأن هناك إقراراً دولياً بفاعلية أداء هذه الحكومة وقدرتها على الإدارة، وإن كان في حدود معينة، في ظل سيطرة الاحتلال، وفرت اتفاقيات أوسلو العنصر الثالث للاعتراف. بينما امتلكت المنظمة والسلطة القدرة على بناء علاقات وتواصل مع دول العالم، والذي عكس شخصيتها القانونية اللازمة للتعامل مع دول العالم. وترسخ ذلك العامل الرابع بعد العام ٢٠١٢، عندما قررت الجمعية العامة اعتبار فلسطين دولة مراقبة، الأمر الذي سمح لفلسطين لأن تكون عضواً في المعاهدات والمنظمات الدولية التي تشترط وجود الدول فقط في عضويتها.

وبينما تمتلك فلسطين اليوم المقومات القانونية لوجود الدول، يشكل اعتراف الدول بها قضية مهمة، لكن غير مؤثرة على وجودها القانوني، خصوصاً أن ذلك يعكس إرادة فردية، تتأثر بالاعتبارات السياسية، في ظل اعتراف معظم دول العالم بها. ويتقاطع وجود فلسطين قانونياً كدولة مع حق تقرير المصير، وهو حق أصيل في القانون ويشكل قاعدة آمرة، تقر بها جميع دول العالم كحق راسخ للفلسطينيين، يجبر ذلك الدول على الاعتراف بفلسطين، خصوصاً في ظل امتلاكها لمقومات الدولة، ويجعل عدم الاعتراف بها من قبل بعض الدول مخالفاً لقاعدة قانونية آمرة.

وفي جميع الأحوال تحتاج فلسطين اليوم لتحرك دولي كبير، ولخطة عملية فورية لوقف الحرب في غزة أولاً، وإزالة الاحتلال من الأراضي الفلسطينية في غزة والضفة بما فيها القدس، ودعم الدولة الفلسطينية الحرة المستقلة، كي يتوج نضال الشعب الفلسطيني بما يستحقه من حرية.