نشر بتاريخ: 2025/08/20 ( آخر تحديث: 2025/08/20 الساعة: 10:56 )
توفيق أبو شومر

هل الديكتاتورية مَرضٌ أم عبقرية؟!

نشر بتاريخ: 2025/08/20 (آخر تحديث: 2025/08/20 الساعة: 10:56)

سأظل أتذكر مسرحية، كاليغولا للكاتب الفرنسي، ألبير كامو المولود في الجزائر العام 1913 والمتوفى في فرنسا العام 1960؛ لأن هذه المسرحية جعلتني أبحث عن سيرة زعيم روما، كاليغولا الذي عاش في القرن الأول الميلادي، فهو تارة زعيم مجنون يبحث عن المستحيل، وطوراً عبقريٌ يبحث عن علوم الفضاء، كان يسعى لامتلاك القمر والتحكم في ضوئه، وكان يعشق الانتقام من كارهيه بالقتل والإذلال، فهو شخصية غريبة، بخاصة حين قرر أن يُعين حصانه عضواً في البرلمان، وحظي بالموافقة من مجموع الأعضاء، ولم يكتفِ بذلك بل قرر الاحتفال بالمناسبة، فصنع وجبة (فاخرة) لأعضاء البرلمان مكونة من التبن والشعير المخصص للحصان، وأرغم أعضاء البرلمان الحاضرين على أكل هذه الوجبة!

وقد بلغ به المرض حداً جعله يُغلق مستودعات الطعام ليتسلى على مجاعة شعبه! وهو على الرغم من طغيانه وجنونه إلا أن مساعده، كاسيوس وحرَّاس كاليغولا تمكنوا من اغتياله العام 44م، ليتخلصوا من جنونه وطغيانه!

هذا العبقري المجنون أورث سلفه الروماني، نيرون بعض صفاته، فقد تولى، نيرون حكم روما بعده، وكان هناك شبهٌ بين الاثنين في الروايات التي حيكت، فقد اتُّهم نيرون أيضاً بأن له مزاجاً مَرَضياً، نُسب إليه أيضاً أنه تواطأ على إهمال إطفاء حريق مدينة روما العام 66م، وادعى كثيرون أنه لم يرغب في إطفاء الحريق وكان يلتذُ بالنار، لأنه كان مشغولاً ببعض الألعاب المسلية، فقد كان يعزف على آلته الموسيقية، ولم يتأثر بالمنكوبين من سكان المدينة!

غير أن كثيرين من المؤرخين رفضوا هذه التهم وأنصفوا نيرون، وقالوا إنه شارك في إطفاء الحرائق في مدينته!

مسرحية كاليغولا دفعتني لقراءة ما توفر لدي حول شخصيات مثيلة من الحكام العرب المصابين بالمرض الكاليغولي، مثل الحاكم بأمر الله، حكم مصر من 996م - 1021، كان مصاباً بمرض كاليغولا بدرجة مختلفة، فبعد موت والده العزيز بالله الفاطمي تولى الحكم فتى صغيراً، إلا أنه عندما بلغ الخامسة عشرة من العمر بدأ عصره بالطغيان فأعلن الحرب على منافسيه وتخلص منهم!

غير أن كثيرين من المؤرخين أنصفوا الحاكم بأمر الله، لأنه كان عفيفاً كريماً، ألغى الضرائب، ومنح الجوائز للمبدعين، غير أن كتب التاريخ أثبتت له أعمالاً غريبة منها: حظر العمل في النهار، ومنع أكل طعام نبات الجرجير والملوخية، ومنع ذبح الأبقار إلا الأبقار غير الصالحة للفلاحة، وحظر بيع السمك الخالي من القشور، ودعا لإصلاح الموازين، وأمر بكنس الأزقة والشوارع وأبواب الدور في كل مكان، وكان معتاداً على مراقبة حركات القمر والأفلاك، وكان شغوفاً برصدها!

افتتح مكتبة دار الحكمة بالقاهرة وحمل الكتب إليها، وعين لها المختصين.

أشار كثيرون من الباحثين إلى أن الحاكم بأمر الله كان مؤسس الطائفة الدرزية!

لم ينسَ كثيرون أوامره بقمع اليهود والمسيحيين وإجبارهم على أن يلبسوا ثياباً مميزة عندما يخرجون إلى الشوارع بألوان خاصة تُظهر ديانتهم، فقد كان يُجبر اليهود على حمل قرامي الخشب في رقابهم!

يعزو كثيرون من المؤرخين سبب الحروب الصليبية إلى تدمير الحاكم بأمر الله كنيسة القيامة في القدس 1009م، ولكنه أعاد بناءها من جديد، ورغم ذلك جرت المذابح الصليبية الفظيعة ضد سكان القدس بسبب هذه الفعلة!

سأظل مسكوناً بمقررات الدراسة في منهج الخطابة العربية المقرر على أبناء يعرب في مدارسهم، ومن أبرز النصوص الخطابية التي كانت مقررة على طلاب المدارس في بلاد العرب، خطبة، زياد بن أبيه، الطاغية ـ وهو خطيب مجهول النسب رغب في أن يصبح له نسبٌ عالٍ، فقرر أن يسلك طريق الديكتاتور القامع في بداية القرن السابع الميلادي، عندما استعان به الخليفة الأموي، معاوية بن أبي سفيان ليُطوِّع سكان مدينة البصرة المتمردين على الحكم الأموي، على أن يعترف معاويةُ بنسبه إلى بني أمية، حينئذٍ وافق زيادٌ ليصبح اسمه، زياد بن أبيه، أي أخ معاوية بن سفيان، حينئذٍ اختط خطبته المشهورة في مسجد البصرة، فقد جمع سكان المدينة في المسجد وخطب فيهم الخطبة الخالية من بسم الله الرحمن الرحيم، لذا سُميَّت (البتراء)، كان هو أول قائد في التاريخ فرض منع التجول على سكان البصرة، حين قال: «إياكم ودلج الليل، فإني لا أوتى بمدلج إلا سفكت دمه، حرامٌ عليَّ الطعامُ والشرابُ حتى أسويها بالأرض هدماً وإحراقاً، إني أقسم بالله لآخذن الولي بالمولى، والمقيم بالظاعن، والصحيح منكم بالسقيم، والمقبل بالمدبر، حتى يلقى الرجل أخاه فيقول له: أُنجُ سعد فقد هَلك سُعيد، مَن أغرق قوماً أغرقناه، ومن نبش قبراً دفناه فيه حياً»!

وسأظل أيضاً أتذكر تاريخ قامع وطاغية آخر، ذكرته مناهج الدراسة في عالمنا العربي، واعتبرته المقرراتُ المدرسيةُ حاكماً قوياً حازماً، تمكن من قمع معارضي السلطة الحاكمة، هذا الطاغية هو، الحجاج بن يوسف الثقفي العام 660م، هو المنتدب من الخليفة الأموي، عبد الملك بن مروان ليطوع مكة والمدينة لحكمه، وليتخلص من قائدها، عبد الله بن الزبير ابن أسماء بنت أبي بكر.

لم يلتفت الحجاجُ إلى قدسية الكعبة، فقد ضربها بالمنجنيق، وقتل أعداداً كبيرة من جيش عبد الله بن الزبير، ليتمكن من الحصول على لقب خليفة المسلمين في مكة والطائف والعراق، وعندما تمكن من هزيمة عبد الله بن الزبير، علق جثته على مدخل مكة، وقطع رأسه وأرسله للخليفة عبد الملك بن مروان، في جريمة بشعة!

سأظل أتذكر خطبة الحجاج لتطويع أهل العراق حين قال: «يا أهل العراق، يا أهل الشقاق والنفاق ومساوئ الأخلاق، إنكم طالما أوضعتم في الفتنة، واضطجعتم في مناخ الضلال، وسننتم سنن الغي، وأيم الله لألحونكم لحو العصا، ولأضربنكم ضرب غرائب الإبل»!

إن الحكام الجاهلين أو المصابين بمرض الغرور هم أسوأ بكثير من العملاء المأجورين، لأنهم قادرون على إفساد وتدمير مجتمعاتهم بخطوات متهورة لإنعاش ذواتهم، ببصرف النظر عما يرتكبونه من آثام في حق أبناء جلدتهم وأوطانهم!

ليس شرطاً أن يكون رؤساء الدول عملاء مأجورين، بل قد يكونون مجانين ليحققوا حلم الآخرين!

للأسف ظل الديكتاتوريون المجانين هم الأكثر شهرة في كتب الأدب، ظلت هذه القصص القمعية دعاية لهم، لكي تحذوَ أجيالُنا على منوالهم، وللأسف أيضاً لا تزال مناهجُنا التربوية قاصرة عن معالجة هذه الديكتاتوريات، وإعادة صياغتها في قوالب ديموقراطية عصرية تلائم مستقبلنا!

وكأن هذه النماذج الكاليغولية هي الحل الوحيد لإخماد الثورات وتطويع المواطنين بالقوة، وكأن المناهج الدراسية تقول لأبنائنا بصورة غير مباشرة: «الديكتاتورية، والقمع، والتهديد، والقتل، هي الحل الوحيد للقضاء على التمرد ضد الحكومات المكروهة»!

أخيراً، تخلو مقرراتنا المدرسية من موضوعات غايتها علاج جنون الحكام وطغيانهم، فلا وجود في معظم مناهج أبنائنا التربوية لمبادئ تعليم أسس الديموقراطية، ولا وجود لمناهج تعزيز ثقافة الوئام والسلام، وإنعاش الفنون الجميلة، وتعليم آليات الإسهام العلمي والثقافي في حضارة العالم!