اغتيال الحقيقة.. الصحفيون الفلسطينيون في مرمى الاستهداف

بقلم: المستشار د. أحمد يوسف
اغتيال الحقيقة.. الصحفيون الفلسطينيون في مرمى الاستهداف
الكوفية منذ اللحظة الأولى لاندلاع الحرب الإسرائيلية على غزة، بدا واضحاً أن الصحفي الفلسطيني سيكون في صدارة بنك الأهداف. لم يكن القتل عارضاً ولا مجرد خطأ عسكري كما تحاول إسرائيل الإيحاء، بل ممارسة ممنهجة تستهدف إسكات الشهود على الجريمة.
حتى اليوم، تشير التقارير إلى سقوط ما يزيد عن مئتي صحفي فلسطيني بين شهيد وجريح، وهو رقم مرعب يجعل هذه الحرب الأكثر دموية بحق الإعلاميين منذ عقود طويلة. غياب الصحافة الأجنبية عن ساحة الميدان بفعل المنع الإسرائيلي المقصود، ترك الكاميرا الفلسطينية وحدها تواجه آلة الحرب.
ومع كل صورة أو بث مباشر من تحت الركام، كانت إسرائيل تدرك أن هذا الصوت ينسف روايتها أمام العالم، ويحوّل الأكاذيب الدعائية عن “استهداف الإرهابيين” إلى مشاهد دامغة لمجازر ضد المدنيين. لذلك، كان من الطبيعي أن يتحول الصحفي الفلسطيني إلى هدف رئيسي؛ يُقتل في منزله، أو يُقصف في خيمته، أو يُستهدف وهو يحمل كاميرته. قصة الزميل أنس الشريف، مراسل الجزيرة، تختصر هذه المأساة بأكملها.
شاب في أوج عطائه، نذر نفسه لنقل الحقيقة من قلب غزة المحاصرة، وكان أحد أبرز الأصوات التي كسرت الحصار الإعلامي. لم يتوقف عن التغطية رغم القصف المتواصل وخسارته أفراداً من أسرته، وبقي على الهواء حتى اللحظة الأخيرة.
وعندما عجزت إسرائيل عن إسكات صوته بالحملات الإعلامية والتشويه، قررت أن تصفيه جسدياً. استُهدف مع فريقه أثناء تواجدهم قرب مستشفى الشفاء، ليرحل وهو يكتب وصيته الأخيرة: “"إذا وصل إليكم خبر موتي، فاعلموا أن إسرائيل نجحت في قتلي وإسكات صوتي، لكن لا تنسوا غزة ولا تنسوني من دعائكم".
كانت تلك الكلمات أشبه بصرخة وداع ووصية مهنة أراد لها الاحتلال أن تُدفن تحت الركام وكعادتها، لم تكتفِ إسرائيل بالقتل، بل راحت تبرر الجريمة عبر فبركة الاتهامات، فاتهمت أنس بالانتماء لحركة حماس وقيادة خلية عسكرية.
لكن هذه المزاعم لم تصمد أمام الحقيقة؛ فزملاؤه ومؤسسات حقوقية دولية أكدوا أنه لم يكن سوى صحفي محترف، حمل الكاميرا كسلاح وحيد في مواجهة أعتى آلة عسكرية في المنطقة. تلك الاستراتيجية القديمة الجديدة، أي شيطنة الإعلامي الفلسطيني ووصمه بالإرهاب، لم تعد تقنع أحداً، بل تحولت إلى دليل إضافي على أن الاحتلال يرى في الحقيقة عدواً لا يقل خطراً عن المقاتلين.
ما يضاعف مأساة الصحفيين الفلسطينيين هو الصمت الدولي المخزي. مؤسسات الإعلام العالمية الكبرى، التي تهبّ للدفاع عن مراسليها في أي مكان، اكتفت ببيانات خجولة لا ترقى لحجم الفاجعة.
وبدلاً من تشكيل جبهة ضغط دولية لوقف القتل وضمان الحماية، تُرك الصحفي الفلسطيني وحيداً في الميدان، يواجه الموت كل يوم وهو يعلم أن قضيته لن تجد آذاناً صاغية في العواصم الكبرى.
هذا الغياب للفعل يفضح خللاً أخلاقياً عميقاً، ويجعل الحديث عن حرية الصحافة في الغرب خطاباً انتقائياً محكوماً بالمصالح. ومع ذلك، لم يتوقف الإعلاميون الفلسطينيون عن أداء رسالتهم. بالعكس، بدا وكأن دماء الشهداء من زملائهم أشعلت فيهم عزيمة أكبر على الاستمرار.
لقد أدركوا أن كل صورة من بين الركام هي وثيقة، وأن كل بث مباشر وسط القصف هو شهادة للتاريخ، وأنهم مهما قُتلوا فلن تتمكن إسرائيل من قتل الحقيقة.
إن قتل هذا العدد الكبير من الصحفيين في حرب واحدة لا يمكن أن يُفسَّر إلا باعتباره جريمة حرب متكاملة الأركان.
القانون الدولي الإنساني واضح في اعتبار الصحفيين مدنيين محميين، واستهدافهم جريمة لا تسقط بالتقادم.
عاجلاً أم آجلاً، سيجد نتنياهو وجنرالاته أنفسهم في في قفص الاتهام أمام المحاكم الدولية، يلاحقهم دم أنس الشريف ومئات غيره ممن دفعوا حياتهم ثمناً لواجب مهني وإنساني. إنها ليست حرباً على غزة وحدها، بل حرب على الحقيقة، ومحاولة متعمدة لإطفاء عين العالم كي لا يرى ما يحدث.
غير أن دماء أنس وزملائه ستظل لعنة تطارد القاتل، وصرخة مدوّية تفضح كذب الرواية الإسرائيلية، وتؤكد أن الصحفي الفلسطيني لم يكن يوماً سوى ضمير أمته، وسراجاً ينير دربها في أحلك اللحظات.