حين تعمل أميركا لهدم النظام الدولي القائم

طلال عوكل
حين تعمل أميركا لهدم النظام الدولي القائم
في حين تجتاح العالم موجة غير مسبوقة لإدانة حرب الإبادة والتجويع، التي تشنّها دولة الاحتلال منذ 23 شهراً؛ لتحقيق أهداف غامضة لدى من لا يصدّق نبوءات بنيامين نتنياهو رئيس حكومة جرائم الإبادة، بالشراكة الكاملة من قبل أميركا، تقف الأخيرة وحدها تقريباً، في حماية والدفاع عن دولة الاحتلال، من دون انتباه إلى التداعيات التي تضرب النظام الدولي.
الإدارة الأميركية اتخذت قراراً تنفيذياً، بإخضاع ثلاث منظمات حقوق فلسطينية، هي: «الحق»، و»الميزان»، و»المركز الفلسطيني»، لعقوبات بعد أن كانت اتخذت عقوبات مماثلة بحق مؤسّسات فلسطينية أخرى، والتهمة هي دور هذه المؤسسات في تقديم الشهادات والأدلة للمحكمة الجنائية الدولية، والإسهام في دفعها نحو محاسبة مرتكبي جرائم الحرب الإسرائيلية.
«الجنائية الدولية» كانت قد تعرّضت لتهديدات وضغوطات وعقوبات من قبل الإدارة الأميركية، بعد أن عجزت دولة الاحتلال عن التأثير في إجراءات المحكمة.
الإجراءات الأميركية، بما في ذلك العقوبات ضد مؤسّسات العدالة الدولية، ومنظمات حقوق الإنسان، تشكّل جزءاً من منظومة تكمل ما دأبت دولة الاحتلال على القيام به، لإسكات الشهود وقمع الأصوات، التي تلتزم القانون، والحقوق، ومنظومة الأمم المتحدة، وتفضح كل ادعاءات لمن يخوض حروباً بذريعة حماية حقوق الإنسان والديمقراطية والنضال السلمي.
دولة الاحتلال تخوض حرب تصفية ممنهجة للصحافيين الفلسطينيين، حيث تجاوز عدد من اغتالتهم 250 صحافياً، وهو أكثر بكثير من أعداد الصحافيين الذين قتلوا خلال الحربين العالميتين وحروب أخرى وقعت في غير مكان.
وبموازاة ذلك، تمنع الدولة العبرية دخول الصحافيين ووسائل الإعلام الأجنبية لتغطية المجازر، وتمنع أي لجان تحقيق دولية أو أي متضامنين، في حين يقوم نظامها القضائي الكولونيالي بالتستُّر على الجرائم ولا يكلّف نفسه حتى تبريرها.
الحملة لقمع الشهود والشهادات تنطوي على أبعاد تتصل بطبيعة وأهداف وميدان الحرب الهمجية الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني في كل مكان من فلسطين التاريخية، بما في ذلك تجريف المؤسّسات الأهلية ومؤسّسات المجتمع المدني.
لا تدرك الإدارتان الراهنتان الأميركية والإسرائيلية الأبعاد المترتّبة على هذه السياسات، التي تستهدف المنظومة الدولية وحتى النظام الدولي الذي تتسيّد عليه أميركا، فضلاً عن تداعيات ذلك على الدولتين.
توماس فريدمان، الصحافي والكاتب الأميركي اليهودي الديانة المعروف بتأييده ودفاعه عن إسرائيل، كان قد حذّر من أن سياسة الإدارة الأميركية تهدّد بانهيار البلاد، وأن الحرب التي تخوضها إسرائيل ضد الفلسطينيين إنّما هي حرب ضدّ ذاتها، وتعرّضها لخطر وجودي.
في زمنٍ يتحدّث فيه البعض عن أن النظام العالمي دخل مرحلة التغيير نحو نظام متعدّد الأقطاب، خصوصاً بعد الرسائل القوية والشاملة التي صدرت عن «مجموعة شنغهاي»، فإن أميركا بسياساتها الراهنة تعتبر مساهماً حقيقياً في مثل هذا التحوّل.
قطب قوي منافس ينشأ لمناسبة الذكرى الـ80 للحرب العالمية الثانية، يمتلك كل مقوّمات المنافسة والتفوُّق، ويهدّد مكانة أميركا، لا يدفع إدارتها لإعادة النظر فيما تفعله فيكتفي رئيسها دونالد ترامب باعتبار ما يجري مؤامرة على بلاده.
حين يعتمد ترامب سياسة الانسحاب من «اتفاقية المُناخ»، والاتفاق النووي مع إيران، والانسحاب من منظمة الصحّة العالمية، ومن دعم «الأونروا»، ومن «اليونسكو»، و»المنظمة الدولية لحقوق الإنسان»، فإنه يخلي عملياً الميدان لتقدّم قوى أخرى، ويساهم في هدم النظام الدولي الذي تتسيّد عليه بلده.
وحين يتجاوز ترامب «اتفاقية المقرّ» ويمنع الوفد الفلسطيني من الحصول على تأشيرات دخول للمشاركة في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، ويهدّد بفرض قيود على وفود زيمبابوي والسودان والبرازيل وإيران، فإنه يساهم في هدم النظام الدولي القائم.
وحين تمتنع أميركا عن المشاركة في «نظام روما» و»الجنائية الدولية»، و»العدل الدولية»، فإنها تقوّض أحد أهمّ أركان المنظومة الدولية والأمم المتحدة.
وحين تعتمد سياسة فاضحة تتّسم بازدواجية المعايير، وتشنّ حروبها على منظمات حقوق الإنسان والمؤسّسات العاملة في هذا المجال، فإنها تساهم في تدمير منظومة القيم، أو ما تبقّى منها، ما يقود إلى هدم النظام الدولي القائم.
أميركا تسير باتجاه تعميق عزلتها، إلى جانب دولة الاحتلال، بسبب سياسة الغطرسة، واستخدام القوّة ضدّ الحلفاء، كما الأعداء، ما يهدّد ليس فقط سمعتها ومكانتها وإنّما يهدّد وحدة واستقرار الدولتين.
الإدارة الأميركية الرّاهنة لا تشنّ حروبها على الوجود الفلسطيني داخل الأراضي المحتلّة فقط، وإنّما تواصل قمعها للحرّيات الداخلية، وتلاحق مناصري القضية الفلسطينية، بما في ذلك قطاعات واسعة من يهود أميركا، وجامعاتها، ومؤسّساتها الوطنية.
ومع أن عديد المنظمات الأميركية، ومن بينها «هيومان رايتس ووتش»، أعلنت مراراً إدانتها لحرب الإبادة الإجرامية والتجويعية التي تشنّها دولة الاحتلال ضد الفلسطينيين، فإنها تكتفي بتقييد عملها، وقمع أصواتها.
في دولة الاحتلال صدرت تقارير عن مركز «بتسيلم» لحقوق الإنسان، ومؤسّسة «عدالة»، تؤكّد ارتكاب دولة الاحتلال لجرائم حرب الإبادة والتطهير العرقي، ولكنها لا تخضع لعقوبات أميركية، وتكتفي بإجراءات حكومة نتنياهو الفاشية لتعطيل عملها.
ولكن كما يصمد الفلسطينيون، فإنه رغم كل محاولات قمع وإسكات أصوات الشهود، فإنهم سيواصلون كفاحهم للدفاع عن حقوق الإنسان وحقوقهم الوطنية، وملاحقة ومحاسبة جناة ومجرمي الحرب البربرية.