القلق الذي ينتشر ويستبد بالنفوس هو الذي لا يمحوه الكلام، ولا تخفف منه التصريحات والبيانات، يفرض على كل صاحب قلم ورأي ان يقدم إجابة مقنعة عن كومة من الأسئلة المثارة على مستوى المجتمع كله، حول الحالة الفلسطينية كلها، وهي حالة كما يعرف الجميع غير محصورة في مكان أو محكومة لسلطة أو تنظيم، ذلك أن أقدار هذا الشعب جعلته موزعا بما يقارب أن يكون مناصفة بين من هم على أرض الوطن، ومن هم في المنافي القريبة والبعيدة، وهؤلاء "النصفين" يتحدون في هوية عميقة لا تنفصم هي الفلسطينية.
قاعدة الارتكاز المصيري – وهذا لحسن تصاريف القدر-موجودة بقوة على أرض الوطن، وإذا ما قرأناها بموضوعية وتجرد واقع هذه القاعدة وفاعلية تأثيرها على كل فلسطيني أينما وجد، نجد أنها بحاجة إلى أمور كثيرة لتُنجَز كي يواصل الفلسطينيون سعيهم الصعب نحو حلمهم الشعبي الواحد الحرية والاستقلال.
لم يعد الزمن يتطلب زعيما يقود شعبا برمزيته ومركزيته وما يوصف بكارزميته، كان ذلك جائزًا بإيجابه وسلبه في زمن مضى. تداولت فيه على التاريخ أسماء فعلت فعلها في الحياة الفلسطينية منذ نشوء القضية. الحاج أمين الحسيني صاحب العمامة الدينية والمكانة الاجتماعية، والأستاذ أحمد الشقيري الحقوقي والديبلوماسي والخطيب المفوه، ثم ياسر عرفات الذي لا تكفي المعاجم والمكتبات بوصف ما تمتع به طيلة حياته على رأس الحالة الفلسطينية التي ظلت توصف بالثورة، ثم محمود عباس رئيس الحالة التي توصف بالسلطة.
من هو الشخص الذي يلي هؤلاء؟ وماذا يمكن أن نسميه أو نسمي حالته؟ الأفضل لنا كفلسطينيين بل والمنطقي أكثر أن نستبعد هذا السؤال ونستبدله بسؤال آخر أكثر واقعية ومنطقية.
بعد سلسلة الأسماء التي حققت حضورًا قويًا في حينها دون أن تحقق الحل المنشود لأعقد قضية في التاريخ، ماذا نحتاج أو ماذا يحتاج الوضع الراهن الذي آلت إليه الحالة الفلسطينية ولا يخفى على أشد المتفائلين كم هي صعبة بل وكارثية.
هل نحن بحاجة إلى شخص ينقذ الحالة بتحقيق حلول لكومة المشاكل الكبرى التي استفحلت في الحياة الفلسطينية وسحبت آثارًا مخيفة على القضية ومكانتها وفرص حلها بما يرضي شعبها، وهل هذا الشخص على ما أعرف ويعرف الفلسطينيون جميعًا لم يعد موجودًا بل ولم يولد بعد، وفي زمننا المسمى بالحديث لن يولد على الاغلب أو باليقين.
وبقدر ما تبدو الحكاية غاية في التعقيد والواقع غاية في الاستعصاء ويبدو الحل الذي نرجو لم يبتعد فحسب بل انتهى، ولكي لا نقع في محذور اليأس والتيئيس لنقل حتى إشعار آخر، فإننا بحاجة إلى معرفة ما ينبغي علينا أن نفعل وليس ما يتعين علينا أن ننتظر.
علينا أولًا أن نسلم بحقيقة منطقية وعادلة وهي أننا لم نعد بحاجة إلى زعيم لأن الأصح والأكثر صدقية وواقعية أننا بحاجة إلى نظام سياسي، ينتج مؤسسات قيادية مؤهلة، وهي بدورها تنتج رئيسًا خاضعًا لقيود دستورية تحول بينه وبين التفرد بالقرار على أي مستوى من المستويات، وذلك يتطلب أن يُنتج النظام السياسي من المفاعل الوحيد الذي يمنح الشرعية الحقيقية وهو الشعب، ولذلك وسيلة واحدة لم تخترع البشرية بديلًا عنها وهي الانتخابات، شريطة أن لا تكون كما هي الآن عندنا انتقائية يتحدد إجرائها من عدمه وفق حسابات الأجندات، فتجري بيسر وسهولة في قطاع معين وتحجب عن قطاع آخر، فالبلديات وبعض النقابات ممكنة وفي متناول اليد ولا عائق لها، أما الرئاسية والعامة فهي مستحيلة!.
إن النظام الحقيقي الشرعي والفعال هو أن ينتجه صندوق الاقتراع، فهو الوسيلة الشعبية الوحيدة التي تمنح الشرعية لأصغر جمعية خيرية في أصغر قرية إلى البرلمانية والرئاسية، وفي حال الذهاب إلى خيارات مختلف عليها فهنالك الاستفتاء الذي أن مرر قرارًا أو منعه، فالناس هم المسؤولون عن نعمهم أو لائهم.
هذا البديهي الذي اتحدث عنه يبدو مستحيلًا إذا وجد نافذون يعترضونه ويمنعونه تحت ذرائع شتى، أما إذا وجدت الإرادة وقد وجدت كثيرًا في حياة هذا الشعب، فهو أسهل الممكن والأكثر جاهزية لأن يتحقق، ألم نصل قبل سنة إلى مقربة من صناديق الاقتراع ثم أحجمنا عنها قبل أيام؟؟؟
ليتوقف الفلسطينيون ومطابخ الأجندات الداخلية والخارجية منها عن الحديث عن زعامة فلسطينية قوامها أشخاص، ولينصرف الحديث والجهد نحو صيغة نظام محترم يوفر للفلسطينيين وضعا يليق بمؤهلاتهم وقوة حضورهم وعدالة حقوقهم وغزارة إبداعهم حيثما ارتحلوا أو حلّو، وهذا وإن كان حاجة ومصلحة فلسطينية ملحة، فهو حاجة ومصلحة وضمانة لاستقرار منطقة وحياة ، قدر ما هي القضية الفلسطينية مفاعلًا نشطًا للأحداث، واسألوا إسرائيل وأمريكا والعالم عن ما حدث في رمضان وأيار هذا العام الذي كان يعرف بعام أوكرانيا وما حولها.