أنا وبناتي قبل عشرين عاما
نشر بتاريخ: 2022/06/12 (آخر تحديث: 2025/09/18 الساعة: 14:07)

الكوفية: خبر جريدة القدس قبل عشرين عاما الذي جاء فيه _ ان الجيش الاسرائيلي يعيد احتلال رام الله والبيرة، ويشدد محاصرة مقر الرئيس عرفات والقيادة تطلب انعقادا عاجلا لمجلس الامن لوقف العدوان على الارض والشعب، وشهيدان في رام الله ورفح واصابة واعتقال العشرات من المواطنين، وخبر آخر يقول جرافات الاحتلال تغلق بوابات مقر الرئاسة بالركام والسيارات المحطمة وتدمر مقر الاستخبارات العسكرية_ يعيدني الى ذلك اليوم الذي صحونا فيه على صوت جنازير الدبابات الاسرائيلية وهي تقتحم شوارع رام الله والبيرة من عدة اتجاهات، كنا في منطقة الماصيون برام الله وكان لزاما على ابنتي الاعلامية ايمان والتي تعمل مع الفضائية القطرية آنذاك "وقبل ان تصبح المراسلة الاعلامية لاذاعة وتلفزيون بي بي سي بالعربي" ان تلتحق بمقر الجزيرة في وسط رام الله، ومعروف عن ابنتي ( ككل الاعلاميين والاعلاميات الفلسطينيين) حرصها الشديد على الحضور الميداني ونقل الخبر الفلسطيني وهو السلاح الامضى بيد الفلسطينيين، لكن الدبابات والمجنزرات الاسرائيلية كالسيل العارم لا تتوقف عن الغزو والاجتياح وانتشرت على كل الطرق التي اصبحت ممنوعة على الفلسطينيين بل وتشكل خطر على كل من يتحرك فوقها، وبصوت لا يخلو من القلق عليها وعلى حياتها قلت لها هيا بنا الى مقر الجزيرة، فقالت كيف؟ قلت ساوصلك بسيارتي، ترددت كثيرا خوفا على حياتي وتغلب شغفها وتعلقها بمهنتها واداء واجبها الوطني على خوفها فوافقت، وقالت انا صحافية واعلامية (لم تكن جريمة الاعلامية الشهيدة شيرين ابوعاقلة قد وقعت) أما أنت ؟؟ قاطعتها ولطمأنتها قلت انا بالرعاية الربانية، وبدأت استرجع ما تعلمناه في الاكاديميات العسكرية وما خبرناه ميدانيا للتعامل مع هذه الحالات خاصة في الاعتداءات الاسرائيلية على فلسطين والاغوار والجولان وجنوب لبنان وسلوك جنود الاحتلال وكيف تعاملنا مع مثل هذه الحالات، عبرنا دوار المعلمين بيسر وسهولة ( هذا الدوار الذي اصبح اسمه دوار محمود درويش والذي كان تصميمه من اختياره شخصيا وهو من اختار لوحات الشعر والماء والرخام وكلها دلالات ترمز الى الصفاء والعطاء بعكس ما فعله الصهاينة من جرائم ضد الانسانية، لكنه لم يشهد تدشين الدوار حيث خطفه الموت رحمه الله )، ثم واصلنا السير والتنقل بين الحارات والشوارع الضيقة والازقة التي لا تعبرها الدبابات ولا المجنزرات ما عدا المغامرة عند قطع الشوارع الرئيسية التي حاولت ان أجنب ابنتي مشاهدتها حتى لا  تقلق اكثر على عودتي، العقدة الاخطر كانت عند دوار الساعة باتجاه دوار المنارة، لا بد من المغامرة، نجحنا بعد جهد جهيد ووصلت ابنتي الى مقر الجزيرة وبدأت بممارسة عملها، لكنها قلقة وتريد الاطمئنان على والدها ولم تتوقف عن الاتصال بأمها التي تجهل ايضا ما حل بي، يزداد قلقها كلما تذكرت حجم ما شاهدناه في طريقنا من دبابات وجنود اعداء، في طريق عودتي التقيت بالمقاتلين الفلسطينيين وكانوا يتأهبون وبكل شجاعة للتصدي للعدوان باسلحتهم الرشاشة المتواضعة قرب دوار المنارة ومستشفى الرعاية حيث اقتربت الدبابات، تبادلت معهم المعلومات حول حجم العدوان والاحتمالات المتوقعة على عجل، كانت معنوياتهم عالية جدا وكم تمنيت لو كان مع هؤلاء الابطال اسلحة مقاومة للدبابات والمجنزرات مثل التي تغدق بها امريكا والغرب اليوم على اوكرانيا لما تمكن عدونا من تنفيذ جرائمه، في هذه الاثناء اتصل بي الاخوة والاخوات من التلفزيون الفلسطيني لاجراء حوار حول التطورات الميدانية على الهواء مباشرة، توجهت مباشرة الى مبنى الاذاعة والتلفزيون في ام الشرايط، عندها علمت زوجتي وابنتي ببقائي حيا بعد ساعات طويلة من الغياب في ظل انتشار واسع لجنود ودبابات الاحتلال. وبعد ان اجريت الحوار بوقت قصير تم اقتحام المنطقة من قبل دبابات وجنود الاحتلال وعاثوا بالموقع فسادا.

وحينما عدت للبيت وعلى مقربة من مبنى الاذاعة والتلفزيون وجدت زوجتي تراقب بقلق جنودا اسرائيليين يتمركزون فوق دباباتهم جنوب دوار المعلمين حيث يطل بيتنا عليه يطلبون من طاقم الاغاثة الطبية الفلسطينية الذي تزامن وجوده مع اقتحامهم للمنطقة عبر مكبرات الصوت الترجل من السيارة ورفع الايدي والشباب بخلع قمصانهم، ابنتي سماح وهي المسؤولة عن مختبر الاغاثة الطبية ومعها فتيات اخريات ضمن الطاقم، وكانت مهمتهم تقديم الخدمات الطبية والاسعافات الاولية وبعض المواد التموينية للمحتاجين من كبار السن في البيوت، سماح صاحبة تجربة ميدانية وكانت قد اصيبت بعيار مطاطي في قدمها وهي ككل الفلسطينيات لا تهاب الاحتلال وقد اعتادوا على ممارساتهم القذرة، لكن عدونا غدار ولا يؤمن جانبه، في هذه الاثناء تناقلت الاخبار عن استشهاد مجموعة من الابطال من رجال الامن الوطني قرب مبنى بنك القاهرة عمان آخر شارع ركب اثناء تصديهم لجنود الاحتلال وما زاد الموقف حساسية ان ابنتي المهندسة هيام كانت تعمل في شركة palestine on line ومكاتبها في بناية بنك القاهرة عمان مما اضطرهم لفك الحواسيب لتجنب وقوعها بايدي جنود الاحتلال والقفز من فوق اسوار المنطقة الخلفية للبنك وهو ما عرضهم للخطر واعاق وصولهم للبيت .، تواصلنا مع سكان المنطقة لموافاتنا بالمعلومات وللاطمئنان عن افراد طاقم الاغاثة الطبية، وعشنا لحظات من القلق على حياة ابنتنا وحياة زملائها وزميلاتها وكأنها سنين طويلة، صراخ الجنود الإسرائيليين وشتائمهم عبر مكبرات الصوت لم تتوقف، بعد وقت ليس بقليل وفي هذه الأجواء المرعبة وقبل الغروب بقليل واذ بابنتنا سماح تطل علينا سيرا على الاقدام وخلفها جنود الاحتلال مما زاد من قلقنا عليها لسوابق كثيرة قام بها جنود الاحتلال ونفذوا الاعدامات الميدانية بحق الفلسطينيين، لكن تواصل الجيران الدائم معنا وموافاتنا بالمعلومات اولا بأول خفف من روعنا وخشيتنا على ابنتنا والطاقم، انه اشبه بالموت البطيء، لم يهدأ لنا بال الا بعد ان وصلت ابنتنا البيت وروت لنا قصتها وزملائها وزميلاتها من الطاقم الطبي الفلسطيني وكيف تعامل جنود الاحتلال معهم خاصة الشباب بكل قساوة والتلفظ بكلمات بذيئة واحتجزوهم لساعات طويلة على الرغم من انهم يستقلون سيارة اسعاف ظاهرة للعيان والمميزة بالعلامات الدالة وهم يرتدون الملابس المميزة الدالة على مهنتهم والمفترض انهم محميين بحسب اتفاقيات جنيف المؤرخة في 12 اب 1949 وبحسب المادة 11 من البروتوكولان الاضافيان للاتفاقيات. وروت لنا ابنتنا سماح كيف رفضت وبكل شجاعة التحرك دون مرافقة من الجنود تحسبا من استهدافها من قبل طواقم الدبابات الاخرى القريبة والمنتشرة في المنطقة، المهمة الاصعب كانت الاطمئنان على بقية افراد الطاقم الذي تمكن بشق الانفس من الوصول الى وجهته

لا ينطبق القول هنا ما اشبه اليوم بالامس، فالاحتلال ازداد ويزداد شراسة كل يوم وتتضاعف جرائمه، والفلسطيني ورغم ازدياد معاناته وآلامه الا انه متمسك بأرضه ووطنه اكثر ومواجهته للاحتلال اكبر واشمل.