فلسطينية-عربية حتى النخاع، عرفتها القدس ورام الله وعمان وبيروت ودمشق، عرفتها المنابر الثقافية الفلسطينية والعربية والدولية، عرفتها حقول المعرفة الثقافية والسياسية والإعلامية والاجتماعية، وعرفها مناضلو الحرية والعدالة حول العالم، نساءً ورجالاً، هي الكاتبة والصحافية والمؤرّخة والأستاذة الجامعية والمناضلة السياسية؛ د. بيان نويهض الحوت، وُلدت في القدس يوم 23 تشرين الأول 1937، ورحلت عن عالمنا في بيروت يوم 12 تموز 2025.
*****
كالنحلة كانت تتنقل بين مشروع بحثي إلى آخر، ومن كتاب إلى آخر، ومن معركة فكرية إلى أخرى، بحس نقدي، ورؤية فكرية تاريخية وسياسية ثاقبة.
أثْرت المكتبة العربية بإنتاجها المعرفي الثريّ؛ كتبًا ومقالات ومحاضرات ودراسات.
لم تحلم فقط بعالم أفضل؛ بل عملت بدأب وجدّ ليلًا نهارًا من أجل هذا الغد.
نشأت في بيت علم وثقافة عربي، لأبوين لبنانيين، كان والدها المحامي «عجاج نويهض»؛ مترجمًا، ومؤرّخًا، ومناضلًا سياسيًا، ساهم في تأسيس حزب الاستقلال العربي، عام 1932، وكانت والدتها «جمال سليم»؛ كاتبة قصة ورواية وشعر، عاشت العائلة في القدس حتى نيسان 1948، وبعدها انتقلت إلى لبنان، ثم إلى عمان، وعادت بعدها لتستقرّ في لبنان.
هذه النشأة العروبية، هي التي جعلت د. بيان تقول بقناعة تامة: - ضمن شهادتها على أدوار المرأة الفلسطينية منذ الثلاثينيات - «أنا فلسطينية طبيعي مليون بالميِّة، لكن حقيقة حقيقة أنا عربية».
درست في طفولتها في «مدرسة شميدت للبنات»، في القدس، ثم في «الكلية العلمية للبنات»، في الشويفات في لبنان، وأنهت دراستها الثانوية في «مدرسة الملكة زين الشرف»، في عمان، ثم درست في دار المعلمات في رام الله، واعتبرت أن السنتين اللتين قضتهما في رام الله (54-56) هما أجمل أيام عمرها: «حتمًا هذه أجمل سنوات عمري وبداية عملي السياسي». انتقلت بعدها إلى عمان لتدرِّس اللغة العربية، في «مدرسة سكينة بنت الحسين» مدة ثلاث سنوات، ثم إلى لبنان لتستقرّ في بيروت عام 1959. انتسبت إلى كلية التربية، في جامعة دمشق، لفترة قصيرة، ثم استكملت دراستها الجامعية في الجامعة اللبنانية، لتتخرّج عام 1963، ثم حصلت على شهادة دكتوراه دولة في العلوم السياسية عام 1978، تفرّغت بعدها للتدريس الجامعي في الجامعة اللبنانية، وللبحث العلمي.
انتمت د. بيان إلى حزب البعث العربي الاشتراكي، عام 1957، أثناء تدريسها في الأردن، ضمن سرّيّة مطلقة: «مبادئ الحزب حسّيت إنه أنا اللي كاتبتها؛ وحدة وحرية واشتراكية. الوحدة لا خلاف عليها، والاشتراكية عدالة اجتماعية، أبو ذرّ الغفاري كان اشتراكي».
عملت ضمن «جمعية المرأة العاملة في لبنان»، التي أسَّسها الحزب، عام 1961: «كنت مسؤولة عن شعبة بالشياح، فيها حوالي سبعين شخص، تلات أرباعهم عمال. لما غادرت التنظيم اللبناني، ودخلت بشعبة فلسطين، صرت عضو في حلقة لا أكثر ولا أقلّ».
وبعد عملها المتفاني ضمن التنظيم؛ تحدثت بألم شديد عن مغادرتها صفوفه أواسط الستينيات، بعد أن تبيّنت فشل التجربة، حيث حاد الحزب عن مبادئه التي كانت سببًا في انتمائها له «كانت مغادرتي عن قناعة سياسية»، تألمت من الانفصال بين مصر وسورية، ومن موقف الحزب المائع بشأنه: «هذا شي بحياتي ما حكيت فيه. ما كان عندي تعصب حزبي. الانفصال هدّني جسديًا وفكريًا وعصبيًا ونفسيًا. أسوأ تجربة في حياتي كانت الانفصال».
لم تتوقف عن عملها السياسي بعد تجربتها المريرة مع حزب البعث، حيث انتمت إلى تنظيم «جبهة تحرير فلسطين - طريق العودة» عام 1963، التي أسّسها زوجها المناضل «شفيق الحوت»، وبقيت تعمل ضمنه حتى 1968، حيث حُلّ التنظيم، وانتمى أعضاؤه إلى تنظيمات فدائية متعددة.
وأثناء عمل د. بيان ضمن تنظيم الجبهة؛ ساهمت في تأسيس «لجنة كنزة المناضل»، بعد هزيمة 1967 مباشرة، مع الفنانة تمام الأكحل، ومع الروائية سميرة عزام، التي كانت المسؤولة الأولى عن الفرع النسائي داخل الجبهة.
وبمغادرتها تنظيم الجبهة؛ لم تخرج من العمل السياسي، كما أكّدت: «من أنا وصغيرة ناطرة أكبر حتى أعمل سياسة بحزب ودون حزب. الحزب بالنسبة إلي وسيلة كانت حقيقة».
*****
منذ عملها في التدريس في الأردن، كتبت د. بيان القصائد الوطنية ونشرتها؛ لكنها أوقفت كتابة الشعر، وطغت على كتابتها الحياة والدراسة والعمل الصحافي، كما قالت. لخّصت علاقتها بالكتابة: «سلاحي قلمي، سوف أستمرّ في الكتابة، هي هدفي الأول». كتبت المقالات، ونشرت مقابلات صحافية عديدة، وذكرت أن حبها للتاريخ الشفوي بدأ من الصحافة، حيث عملت فيها أولًا مع شقيقتها نورا حلواني، التي أسّست مجلة «دنيا المرأة»، ثم عملت ست سنوات في «دار الصياد»، وأثناءها أنهت دراستها الجامعية، ودراستها العليا؛ لكنها اعتبرت أن مهنتها الأولى هي التعليم: «مهنتي الأولى كانت تدريس اللغة العربية، الثانية كانت صحافة، والثالثة رجعت للتعليم الجامعي».
*****
فجعتها مجزرة صبرا وشاتيلا؛ لكن الفجيعة دفعتها إلى الإصرار على إنتاج وثيقة تفضح المجرمين، وتحافظ على ذاكرة شهود المجزرة، وتطالب بالعقاب للقتلة؛ فكان كتاب «صبرا وشاتيلا – 1982»؛ الذي وثقت فيه شهادات الناجين من المجزرة، عبر منهج التاريخ الشفوي، والمنهج الإحصائي التحليلي؛ ما مكنها من توثيق أسماء عدد كبير من الضحايا والمخطوفين والمفقودين، بالإضافة إلى أن الكتاب ضمّ صورًا لعدد من المصورين اللبنانيين والأجانب، وملحقًا لخمس خرائط نشرت لأول مرة.
*****
الصديقة الغالية د. بيان،
رغم معرفتي باشتداد المرض عليك؛ إلاّ أنني كنت آمل أن تتماثلي للشفاء، وكنت بانتظار سماع صوتك الجميل الدافئ: بانتظارك في بيتي في الجبل، هناك الكثير لنناقشه ونعمله، ونحن نشهد إبادة جماعية لأهلنا في غزة؛ علينا أن نوثّق ونوثّق، ونحفظ الذاكرة الجمعية.
وإذا كان توثيق ثلاثة أيام من مجزرة صبرا وشاتيلا، قد استغرق منكِ خمس سنوات، فكم من سنة سوف يستغرق توثيق المجازر التي تحدث يوميًا في غزة، منذ ما يقارب السنتين؟ كم سنة؟!
ترحلين عنا جسدًا؛ لكن كلماتك وكتبك ومواقفك سوف تبقى إرثًا فكريًا ونضاليًا وإنسانيًا ثريًا، ينير ويلهم ويضيء، وسوف تبقين بيننا وفي ضمير العالم صوتًا حرًا، وذاكرة حيّة.