فرنسا تعترف بفلسطين: الزلزال الذي يُطيح بآخر حصون التواطؤ الغربي ويُعيد تشكيل خريطة الصراع في الشرق الأوسط
نشر بتاريخ: 2025/07/27 (آخر تحديث: 2025/07/27 الساعة: 16:08)

في لحظة تاريخية فارقة ستُدرج في سجلات النضال الفلسطيني كأحد أهم التحولات الاستراتيجية منذ نكبة 1948، أعلنت فرنسا عزمها الاعتراف الرسمي بدولة فلسطين خلال أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر المقبل، لتصبح بذلك أول دولة من مجموعة السبع العظمى تكسر جدار الصمت الدولي المطبق منذ عقود على جرائم الاحتلال الإسرائيلي. هذا القرار الذي وصفه ديمتري دلياني عضو المجلس الثوري لحركة فتح بأنه "اختراق استراتيجي في جدار الشلل الدولي" لم يأتِ من فراغ، بل هو نتاج تراكمات دامية على الأرض حيث تواصل آلة الحرب الإسرائيلية سحق غزة منذ أكتوبر 2023 في حملة إبادة منهجية أسفرت عن استشهاد أكثر من 59 ألف فلسطيني بينهم 25 ألف طفل و15 ألف امرأة، وإصابة أكثر من 140 ألف آخرين بجروح مختلفة، ناهيك عن التهجير القسري لأكثر من 2.2 مليون مواطن تحت وطأة القصف الممنهج وتدمير كامل البنى التحتية.

ما يجعل هذا الاعتراف أكثر إلحاحاً هو تزامنه مع تصاعد المشاريع الاستيطانية الإسرائيلية في الضفة الغربية، حيث تُبذل جهود حثيثة في الكنيست الإسرائيلي لتمرير مشاريع قوانين تهدف إلى ضم أجزاء كبيرة من الضفة الغربية بشكل رسمي، وهو ما يمثل انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي وطعناً مباشراً في أي أمل بقيام دولة فلسطينية قابلة للحياة. هذه الخطوة الإسرائيلية الجريئة تكشف النقاب عن الوجه الحقيقي لاتفاقيات أوسلو التي تحولت على مدار ثلاثين عاماً من إطار مزعوم للحل السلمي إلى غطاء قانوني لمصادرة الأراضي وتوسيع المستوطنات، حيث استغلت إسرائيل هذه الاتفاقيات لزيادة عدد المستوطنين في الضفة الغربية من 110 آلاف عام 1993 إلى أكثر من 700 ألف مستوطن اليوم، بينما تقلصت المساحة الفعلية المتاحة للدولة الفلسطينية إلى جزر متفرقة غير متصلة.

الاعتراف الفرنسي الذي يضاف إلى سلسلة اعترافات أوروبية سابقة (إسبانيا، النرويج، إيرلندا، سلوفينيا) يمثل تحولاً جوهرياً في الموقف الدولي من القضية الفلسطينية، حيث لم يعد ممكناً للدول الغربية أن تظل متخندقة خلف الموقف الأميركي الرافض للاعتراف بينما تقترف إسرائيل جرائم حرب يومية بأدلة دامغة لا تقبل الجدل. هذا التحول يعكس في جوهره أزمة عميقة في الرواية الإسرائيلية التقليدية التي ظلت لعقود تروج أن الاعتراف بدولة فلسطين يجب أن يكون نتيجة لمفاوضات وليس قراراً أحادياً، بينما الواقع على الأرض يثبت أن إسرائيل استخدمت عملية السلام كذريعة لابتلاع المزيد من الأراضي الفلسطينية.

البعد الاستراتيجي لهذا الاعتراف يتجاوز كونه خطوة دبلوماسية رمزية، فهو في حقيقته يمثل زلزالاً سياسياً يهز أركان التحالف الغربي التقليدي مع إسرائيل، حيث تأتي فرنسا - ثاني أكبر شريك تجاري لإسرائيل في الاتحاد الأوروبي بعد ألمانيا - لتعلن بصراحة أن سياسة "المعايير المزدوجة" لم تعد مقبولة في ظل المشاهد اليومية للمجازر الإسرائيلية في غزة. هذا القرار يضع الدول الأوروبية الأخرى وخاصة ألمانيا وإيطاليا وهولندا أمام مفترق طرق، إما مواكبة هذا التحول التاريخي أو التمسك بمواقف فقدت كل شرعية أخلاقية.

على الصعيد الإقليمي، يشكل الاعتراف الفرنسي ضغطاً غير مسبوق على الأنظمة العربية التي أقامت علاقات تطبيعية مع إسرائيل، وخاصة الإمارات والبحرين والسودان والمغرب التي وقعت اتفاقيات "إبراهيم" عام 2020. فبينما تستمر إسرائيل في ارتكاب أبشع الجرائم بحق الشعب الفلسطيني، يصبح من الصعب على هذه الدول تبرير استمرار علاقاتها الطبيعية مع كيان احتلالي ينتهك أبسط مبادئ القانون الدولي. كما يضع هذا القرار المملكة العربية السعودية في موقف بالغ الحساسية، حيث كانت الرياض تدرس إمكانية التطبيع مع إسرائيل قبل أن تقاطعها مجزرة غزة، والآن مع تصاعد موجة الاعترافات الدولية، قد تضطر إلى إعادة حساباتها الاستراتيجية بشكل جذري.

لكن رغم كل الأهمية الاستراتيجية لهذا الاعتراف، تبقى التساؤلات الجوهرية قائمة: كيف يمكن تحويل هذه الخطوة الدبلوماسية إلى واقع ملموس على الأرض؟ وهل سيكون الاعتراف مجرد حبر على ورق في ظل استمرار السيطرة الإسرائيلية الفعلية على كل معابر فلسطين وحدودها ومجالها الجوي ومواردها المائية؟ الأهم من ذلك، هل ستترجم الدول الأوروبية اعترافها بفلسطين إلى إجراءات عملية مثل فرض عقوبات على إسرائيل أو تجميد اتفاقيات التبادل التجاري أو وقف توريد الأسلحة؟ الأسئلة التي تفرض نفسها بإلحاح: هل نعيش بداية النهاية لأطول احتلال في العصر الحديث، أم أن جدار الصمت الدولي سيعاد بناؤه بمجرد انتهاء الضجّة الإعلامية حول مجزرة غزة؟ في النهاية، يبقى الاعتراف خطوة في الطريق الصحيح، لكن الطريق إلى التحرر الحقيقي ما زال طويلاً وشائكاً.