«إسرائيل الكبرى» وتساؤلات حول الأمن الوطني العربي
نشر بتاريخ: 2025/08/21 (آخر تحديث: 2025/08/21 الساعة: 17:42)

في إطار عدد من التطورات الأخيرة، وعدد من المعطيات المحددة، بات من الضروري طرح تساؤلات وعمل مراجعات لمنظومة عمل الأمن الوطني العربي. هناك ثلاثة تطورات مهمة حدثت مؤخراً تستوجب مراجعة واقع الأمن الوطني العربي. جاءت تصريحات بنيامين نتنياهو الأخيرة، وهو رئيس الوزراء الإسرائيلي الحالي، والأطول عمراً في المنصب من بين أقرانه الآخرين، بالتزامه بشدة بتحقيق مشروع «إسرائيل الكبرى»، الذي يضم أراضي دول عربية أخرى، بالإضافة إلى فلسطين لإسرائيل، ليؤكد ذلك بوضوح أن الخطر الذي حاولت الدول العربية تجاهله لسنوات، يعد الأشد تهديداً عليهم. يأتي ذلك في ظل تصريحات دونالد ترامب، التي اعتبر فيها أن مساحة إسرائيل محدودة، في إشارة للحاجة لتوسيع حدودها، وعادة ما تعكس تصريحات ترامب ما يجري في غرف صنع القرار المغلقة.

كشفت حرب إسرائيل على إيران، وهجماتها على لبنان وسورية عن حقيقة الاختراق الأمني والاستخباري والسيبراني لدول المنطقة، ومدى تقدم المنظومة الإسرائيلية الغربية وتعاونها، في سبيل تحقيق أهداف إسرائيل. كما رفعت حرب غزة القناع عن الوجه الحقيقي لصانع القرار الإسرائيلي، الذي يكنّ كرهاً متأصلاً لكل ما هو عربي، والذي يترجم بجرائم إسرائيل في غزة.

إن تلك التطورات تطرح تساؤلاً حول واقع الأمن القومي العربي، خصوصاً في ظل عدد من العوامل على رأسها الالتزام الأميركي الغربي بحماية إسرائيل، والالتزام الأميركي بالتفرق العسكري النوعي الإسرائيلي مقارنة بجميع دول المنطقة مجتمعة، في ظل خضوع المنظومة الأمنية العربية للنظام الغربي. إن تلك العوامل، وفي ظل التطورات السابقة يخلق معضلة خطيرة للأمن الوطني العربي، ويفرض على الدول العربية، منفردة ومجتمعة، إعادة النظر في منهجها الأمني.

جاء رد فعل دول المنطقة على تصريحات نتنياهو قبل أيام حول ارتباطه العميق برؤية «إسرائيل الكبرى» كمهمة تاريخية وروحية، سواء من خلال بينات فردية، أو مشتركة، باعتبارها تصعيداً خطيراً وتهديداً للسيادة الوطنية وللأمن الوطني العربي والإقليمي، وانتهاكاً للقانون الدولي، ودعت لموقف عربي ودولي حازم. قبل ذلك، شهدت قمة الجامعة العربية الأخيرة تطوراً لافتاً عندما أقرّت «غرفة تنسيق أمني عربي مشترك» بقيادة بغداد، لمكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة. وعلى الرغم من أن تلك التطورات لاتزال محدودة، إلا أنها تعكس توجهاً عربياً مشتركاً لبناء مظلة أمنية عربية، خصوصاً في ظل التحديات التي تتكشف وتواجه المنطقة.

ويبدو أن المعضلة الكامنة اليوم تتفاقم في ظل تقاطع ثلاثة عوامل، هي انكشاف مخططات إسرائيل لدول المنطقة، والتحالف الأميركي الغربي القوي الداعم بدون شروط لإسرائيل، وتبعية منظومة الأمن الوطني العربي لغالبية دول المنطقة لتلك الغربية، الأمر الذي يقيد حدود التصدي الأمني العربي لمخططات إسرائيل. وسعت الولايات المتحدة عل مدار السنوات الأخيرة لتقوية تبعية تلك المنظومة الأمنية من خلال مقاربتها لتطبيع العلاقات بين الدول العربية وإسرائيل، في إطار نظرية الاعتماد المتبادل، والتشابك الاقتصادي، لتحويل الأدوات الاقتصادية أيضاً لوسيلة من وسائل التبعية، بالإضافة للأداة العسكرية.

رغم عدم وجود معاهدة دفاع مشترك بين الولايات المتحدة وإسرائيل، إلا أن الأحداث أثبتت وجودها ضمنياً، ولعل الحرب الأخيرة على إيران تعد أحدث تلك الشواهد. وهناك منظومة متشابكة من القوانين ومذكرات التفاهم تؤكد تلك العلاقة الاستراتيجية العميقة بين البلدين. تلتزم الولايات المتحدة التزاماً كاملاً بحماية إسرائيل، فأكد اتفاق جاء في العام ١٩٧٩، بعد توقيع اتفاق كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل، التزام الولايات المتحدة تجاه إسرائيل، في حال حدوث أي انتهاك محتمل لمعاهدة السلام مع مصر، بما في ذلك استخدام تدابير دبلوماسية أو اقتصادية أو عسكرية عاجلة لتعزيز الأمن الإسرائيلي. وترسخ التعاون الأميركي الإسرائيلي من خلال اتفاقية التعاون الاستراتيجي لعام ١٩٨١ خلال عهد الرئيس رونالد ريغان، والتي وضعت أساسا للتنسيق العسكري الوثيق. فتأسست المجموعة العسكرية–السياسية المشتركة في العام ١٩٨٣، وهي منتدى يُعقد مرتين سنوياً لتنسيق التخطيط العسكري والتدريبات المشتركة. وترسخت تلك الأسس عبر السنوات، فجاءت مذكرة تفاهم عسكرية وقعت في العام ٢٠١٦، تعهدت فيها الولايات المتحدة لإسرائيل بتوفير ٣٨ مليار دولار كمخصصات تمويل عسكرية ما بين عامي ٢٠١٩ و٢٠٢٨، دون أن يشمل ذلك فترة الحروب والأزمات، والذي يعد أكبر التزام عسكري في تاريخ الولايات المتحدة تجاه أي دولة أخرى. ويشمل ذلك الدعم أنظمة مثل القبة الحديدية، واتفاقيات في مجال الأمن السيبراني والذكاء الاصطناعي. وتحتفظ الولايات المتحدة بمخزون الطوارئ الأميركي داخل إسرائيل، وتسمح لها باستخدامه. وتنص وثائق الامن القومي الأميركية المختلفة على أن أمن إسرائيل ركيزة أساسية لمصالح الولايات المتحدة في الشرق الأوسط. كما تعزز التشريعات تلك الشراكة والتحالف، مثل قانون تعزيز التعاون الأمني عام ٢٠١٢، وقانون الشراكة الاستراتيجي لعام ٢٠١٤، وإعلان القدس للشراكة الاستراتيجية لعام ٢٠٢٢، والعديد غيرها. وتلتزم الولايات المتحدة لإسرائيل بالتفوق العسكري النوعي، وضمان عدم الإضرار بذلك التفوق، في إطار صفقاتها العسكرية لدول المنطقة. تؤكد إستراتيجية الدفاع الوطني الأميركي الالتزام بضمان ذلك التفوق العسكري النوعي لإسرائيل.

يرتبط الاتحاد الأوروبي وإسرائيل بأطر تعاون رسمية، فوقع الاتحاد مع إسرائيل اتفاقية شراكة دخلت حيّز النفاذ في العام ٢٠٠٠، تُنشئ حواراً سياسياً وتعاوناً واسعاً بين الطرفين، وتعد أساس العلاقات التجارية والسياسية والأمنية بين الطوفين. ورغم أن الاتحاد ينتقد سياسات إسرائيل الاستيطانية، إلا أن تقارير البرلمان الأوروبي تشير إلى أن إسرائيل تُصنَّف شريكاً إستراتيجياً في مجال التكنولوجيا والأمن. ويرتبط الاتحاد الأوروبي معها باتفاقيات للتعاون البحثي والتكنولوجي عبر برامج مثل هورايزن وبرنامج جاليليو للأقمار الصناعية. وفي العام ٢٠١٨، اتفق اليوروبول وإسرائيل على تبادل المعلومات الإستراتيجية والتخطيط المشترك للأنشطة ضد الجريمة والإرهاب.

رغم عدم عضويتها في الناتو، تعد إسرائيل حليفا رئيسا له من خارجه، الأمر الذي يمنحها مزايا واسعة في مجالات التمويل والبحث ولتطوير والوصول إلى المخازن العسكرية والمواد الدفاعية. فإسرائيل شريك للناتو ضمن «الحوار المتوسطي» منذ العام ١٩٩٤؛ وهو عبارة عن منتدى تعاون متعدد بين الناتو ودول أخرى غير أعضاء كإسرائيل، يوفر منصة حوار سياسي وتعاون وتدريب ومكافحة الإرهاب. في العام ٢٠٠٦، وقعت إسرائيل أول برنامج تعاون فردي مع الناتو، ضمن مشاركتها في عمليات بحرية مشتركة في البحر المتوسط، تطور في العام ٢٠١٦ لتعزيز الأمن الإقليمي. يأتي ذلك بالإضافة للتعاون العسكري الثنائي لدول الناتو مع إسرائيل كالمملكة المتحدة وألمانيا.

ويعد من الصعب إلغاء أو حتى تعليق شراكات الاتحاد أو الناتو الاستراتيجية مع إسرائيل، حتى في ظل غضب شعبي أو أزمات إنسانية كبرى، في ظل طبيعة اتخاذ القرار لإلغاء مثل تلك الشركات التي تحتاج للإجماع، فدولة واحدة عضو من بين الدول الأعضاء للناتو قادرة وحدها على إحباط ذلك، كالمجر أو ألمانيا. كما أن مجلس الاتحاد هو المسؤول عن اتخاذ القرارات التي تتعلق بالسياسة الخارجية للاتحاد وتحتاج للإجماع أيضاً. فالالتزام الأميركي الغربي بأمن إسرائيل وتفوقها النوعي يعكس شراكة استراتيجية يصعب ثنيها.

وتبدو المعضلة الحالية في أن معظم المنظومات العسكرية العربية الدفاعية والهجومية، سواء كان ذلك التسليح، أو الصيانة، أو التدريب، أو نظم القيادة والسيطرة، أو الطائرات المقاتلة، أو الدفاع الجوي أو حتى الأمن السيبراني، مرتبطة قانونياً وتعاقدياً بالولايات المتحدة والدول الغربية، التي تتعهد بضمان تفرق إسرائيل النوعي. تعد مصر على سبيل المثال ثاني أكبر متلقٍ للمساعدات العسكرية الأميركية (بعد إسرائيل)، وتتلقى سنوياً حوالي 1.3 مليار دولار، تخضع لشروط الاستخدام والتدريب الأميركي. كذلك ترتبط منظومات الدفاع الجوي والصاروخي الخليجية بشبكة إنذار مبكر أميركية غربية. فرغم تقديم الولايات المتحدة السلاح لعدد من الدول العربية الا أنها تضمن حصول تلك الدول على سلاح أقل تطوراً من إسرائيل، وتضع قيود الاستخدام في الاتفاقيات، بحيث تشترط عدم استخدامها ضد إسرائيل، كما تضمن بقاء برمجيات التشغيل والدعم الفني لتلك المنظومات في يدها، بما يضمن تعطيلها إذا استخدمت خارج نطاق الاتفاق. وتتشابك الأنظمة الدفاعية العربية مع منظومات القيادة الأميركية الغربية، مما يحد من استقلال القرار العربي.

تكمن إشكالية عميق وضع الأمن الوطني العربي في ظل منظومة لأمنية تخضع لها لمعظم الدول العربية، المرتبطة تعاقدياً وتقنياً بالنظام الغربي، في حين أن هذا النظام الغربي نفسه ملتزم قانونياً واستراتيجياً بضمان تفوق إسرائيل العسكري النوعي، بينما يلوّح نتنياهو بمشروع “إسرائيل الكبرى”. لم تراع الدول العربية في تقاريرها الأمنية خطر إسرائيل كعدو، وركزت على معضلات أمنية أخرى، ويبدو أن التطورات تفرض اليوم إعادة النظر ليس فقط في طبيعة المخاطر والتهديدات، وإنما أيضا في المنظومات الأمنية نفسها، التي ستضمن ردع ذلك الخطر.