لا يمكن النظر إلى إقدام إسرائيل على قصف العاصمة القطرية، أيّاً كان السبب، على أنه حدث عابر، ليس خلال هذه الحرب وحسب، بل ومنذ قيام إسرائيل قبل ما يقارب الثمانين سنة، فهذه المرة الأولى التي تقصف فيها عاصمة خليجية، ودول الخليج كافة، وعلى غير ما كانت عليه كثير من الدول والعواصم العربية، التي سبق لإسرائيل أن قصفتها، نقصد بيروت، تونس، ودمشق، لم تكن يوماً خارج المعسكر الغربي، أما خلال هذه الحرب، فإن القصف الإسرائيلي للدوحة جاء خارج سياق الحرب التي أدارتها إسرائيل ضد إيران وحلفائها الإقليميين الذين تصفهم إسرائيل بأذرع إيران في المنطقة، والغريب أن يحاول رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو أن يبرر عدوانه على الدولة العربية الخليجية، بسبب استضافتها لقيادات «حماس»، وكأنه اكتشف هذا الأمر قبل ساعات من الثلاثاء الماضي، فقطر تستضيف «حماس» منذ نحو عقد ونصف العقد، بالتحديد منذ أن غادرت سورية بعد انطلاق ربيعها عام 2011، هذا من جهة، ومن جهة ثانية، كان نتنياهو شخصياً هو من يدير رعاية قطر لـ»حماس» في غزة عبر ملايين الدولارات التي كان يدخلها محمد العمادي شهرياً.
بل إن نتنياهو يرسل وفوده إلى قطر منذ عامين لتفاوض «حماس» بالذات، فيما يخص البحث عن صفقة لتبادل الرهائن بوقف الحرب، لكن ومن أجل الإحاطة بكل جوانب الصورة، فإن نتنياهو أقدم على قصف الدوحة، في عمل أقل ما يوصف به بأنه مغامرة اليائس، وحيث إنه دأب على تبرير مواصلته الحرب بالسعي لتحقيق الانتصار المطلق، وأنه لن يوقف الحرب دون ذلك، فإن استمرار الحرب يعني أنه لم يحقق الانتصار المطلق بعد، وصحيح أنه رفع سقفه عالياً، بحيث صار من شبه المستحيل عليه أن يحقق هدف تغيير وجه الشرق الأوسط، بما يتضمنه من تهجير لسكان قطاع غزة، ومن ضم للضفة الغربية، ومن هيمنة تامة على كل الشرق الأوسط، وذلك قبل عام حين اغتال حسن نصر الله وإسماعيل هنية، ونفذ عملية «البيجر»، لكن قصفه للدوحة دليل دامغ على أنه اطلق النار على قدميه كفعل يائس، لذلك كان قصف الدوحة بمثابة محاولة «تنفيس» الحقد والاحتقان، إلا أن الخطة المعدة منذ كانون الثاني هذا العام، بعد الصفقة الثانية، تثبت أن القصف كان خياراً على الطاولة منذ زمن.
والسبب الذي اجتمعت عليه القيادتان السياسية والعسكرية، هو إجبار «حماس» على الاستسلام، بعد أن تأكد الجميع أنه لم يعد في جعبة إسرائيل العسكرية ما تفعله في غزة، ويحقق هدف التهجير أو استسلام المقاومة التي ظلت تلحق الخسائر البشرية في الجنود، كذلك في ظل تشبث الغزيين بوطنهم وعدم هجرته، رغم ممارسة القتل الجماعي اليومي، وتسوية مدن القطاع بالأرض، لذلك فقد كانت الخطة أصلاً مقترحاً من الجيش، حيث قال زامير: إن استهداف قيادات «حماس» في الخارج يمكن أن يدفع «حماس» لقبول الاستسلام، وإنه يجب عدم الاكتفاء بالضغط الميداني، وحتى نتنياهو قال ساخطاً: ماذا نفعل إن كانوا لا يهتمون بما نوقعه من قتلى في شعبهم يومياً. لكن السؤال هنا هو: لماذا اختارت إسرائيل قطر وليس تركيا أو مصر؟ والأخبار تشير إلى أنه قد سبق قصف قطر محاولات اغتيال ميدانية لقادة «حماس» في تركيا، وأن تركيا قد ألقت القبض على عملاء للموساد في سياق هذه المهمة، كذلك كان الحال مع مصر، وحتى بعد قصف الدوحة مباشرة، حمل تهديد نتنياهو إشارات تجاه مصر وتركيا، فتحدت مصر إسرائيل بالقول: إن ذلك سيعني إعلان حرب بين الدولتين، وأكثر من ذلك تحدت إسرائيل بدعوة فصائل المقاومة للإقامة في مصر.
يبدو أن إسرائيل قدرت بأن ما سينتج من توتر في العلاقة مع قطر، وهي علاقة غير رسمية على أي حال، فليس بين الدولتين سفراء كما الحال بينها وبين مصر وتركيا، ستقوم الإدارة الأميركية الحالية بما هي منحازة بشكل سافر للحكومة الفاشية الإسرائيلية، وليس لإسرائيل فحسب بمعالجته، ويبدو أن إسرائيل أيضاً أخذت عامل الردع العسكري بالحسبان، فقطر رغم مكانتها السياسية الإقليمية والدولية، ورغم قوتها الاقتصادية، إلا أنها فقيرة سكانياً وضعيفة عسكرياً، والقاعدة الأميركية (العيديد)، لم تحم نفسها من القصف الإيراني قبل ثلاثة أشهر، حتى تحمي قطر، وممَّن؟ من إسرائيل، أما تركيا ومصر، فالأمر معهما مختلف، فهما قوتان عسكريتان كبريان إقليمياً، وتركيا عضو في حلف الناتو، وكلاهما على علاقة دبلوماسية طبيعية مع إسرائيل، أي أن قصف مصر أو تركيا سيؤدي إلى قطع تلك العلاقات فوراً، فضلاً عن أن مصر وتركيا ستردان على القصف عسكرياً وليس سياسياً أو قضائياً كما ستفعل قطر.
في استعراض لفصول الحرب الإسرائيلية، كيف بدأت ثم كيف سارت، وإلى ما ستؤول إليه، يمكن ملاحظة أنها بدأت مع تأييد غربي، انفض بالتدريج مع تصاعد متواصل للاحتجاج الشعبي العالمي، وظلت تراوح مكانها بعد مرور عام تقريباً، ما أثبت فشلاً ميدانياً إسرائيلياً وعدم قدرة على حسم الحرب، استناداً إلى تفوقها في السلاح، براً وجواً، ثم كان أن أدخلت إسرائيل سلاحها الأهم وهو «الموساد»، الذي بات أقوى لديها من سلاح الجو، الذي رغم أنه ما زال متفوقاً بطائرات إف 35 الأميركية، إلا أنه وجد صداً له متمثلاً بالصواريخ والمسيّرات لدى خصومها، وهكذا حققت إسرائيل بفضل «الموساد» منجزها الأهم عبر عمليات الاغتيال في لبنان وطهران، في منتصف الحرب، بعد عام على اندلاعها، وقبل عام من الآن، وبعد أن صمتت الجبهات كلها، خاصة بعد توجيه الضربة لإيران في حزيران الماضي، تقدم ستيف ويتكوف بمقترح الصفقة التي اعتبرت جزئية كما كان يريد نتنياهو، وقبل الأخيرة بالنظر إلى أنها تضمنت إطلاق نصف المحتجزين الأحياء والأموات.
لكن نتنياهو راهن على رفض «حماس»، لأن المقترح كان قاسياً بالنسبة لها، ومع ضغط ميداني كامل، سبب وقف جبهات الإسناد، خاصة لبنان والضفة والزج بمعظم قوات الجيش إلى جبهة غزة، عاد نتنياهو وخشي أن يؤدي وقف الحرب 60 يوماً إلى تصدع الائتلاف أو عدم استعداد الجيش للعودة للحرب لاحقاً، لذلك تنصل ولم يرد على قبول «حماس» قبل شهر للمقترح، واقترح صفقة الكل مقابل الكل لكنه وضع شروطاً جعلت من المقترح: كل الرهائن مقابل الاستسلام.
حقيقة الأمر أنّ ظهر نتنياهو بات ملاصقاً للجدار، فالحرب منذ حزيران الماضي على الأقل، تجري في مشهد وحيد، وهو قتل يومي للمدنيين في غزة بمعدل 50 - 100 شهيد مع جرح ما بين 300 - 500 يومياً، هذا القتل مترافق مع تجويع يعتبر هو فقط جريمة حرب دامغة.
لذلك صار العالم كله بالكامل ضد إسرائيل، وتصويت الجمعية العامة قبل أيام دال للغاية، فمن بين 194 دولة في العالم، صوتت ضد إعلان نيويورك خمس دول فقط: إسرائيل وأميركا، المجر، الأرجنتين وباراغواي، وخمس دول مجهرية أخرى لا قيمة لها في السياسة الدولية، وبعد أقل من أسبوع، كان قصف الدوحة سبباً في جمع كل الدول العربية والإسلامية وهي ذات وزن دولي مهم جداً، بمن فيها إيران وتركيا وباكستان النووية، ليس للتضامن مع قطر، بل لإرساء حائط صد لشرق أوسط نتنياهو الذي يحلم به.
ولعل ما يدل على أن طلقة نتنياهو التي وجهها إلى الدوحة قد ارتدت إليه، هو تلاها من إعلانات كان أهمها بتقديرنا ما صدر عن مصر وعن الإمارات، فالإمارات أوحت بأن اتفاقات أبراهام مهددة خاصة في حال إعلان ضم الضفة، وكان توقيع أبو ظبي عليها مرتبطاً بذلك التهديد قبل 5 سنوات، وما صدر عن مصر من تذكير بإعلان الدفاع العربي المشترك قبل 10 سنوات وضرورة تفعيله، بل ووضع التفاصيل لتنفيذه، والذي زاد عليه العراق بتحويله إلى إعلان دفاع مشترك شبيه بالناتو بين الدول الإسلامية على اعتبار أن القمة في الدوحة كانت إسلامية ولم تكن عربية فقط، ثم كان حديث القاهرة عن شرق أوسط خالٍ من السلاح النووي، حيث لا بد من فرض معاهدة الحد من الانتشار النووي على جميع دول الشرق الأوسط، ما يعني دون مواربة إسرائيل بالتحديد، لأنها هي من تمتلك السلاح النووي، وما هو أخطر من الامتلاك عدم الكشف عما تمتلكه من ذلك السلاح، وهذه الدعوة في حال متابعتها، تعني تخفيف الضغط الغربي عن إيران، بل وفتح الباب واسعاً أمام مصر والسعودية ودول أخرى شرق أوسطية لامتلاك السلاح النووي كسلاح رادع للنووي الإسرائيلي، أو كطاقة سلمية، على الأقل.