نشر بتاريخ: 2025/12/05 ( آخر تحديث: 2025/12/05 الساعة: 14:19 )
رجب أبو سرية

ترامب كما لو كان رئيس العالم !

نشر بتاريخ: 2025/12/05 (آخر تحديث: 2025/12/05 الساعة: 14:19)

الكوفية قبل أربعة عقود مضت، امتلأ صدر الجمهوري الذي صار رئيساً للولايات المتحدة لاحقاً رونالد ريغان، حقداً على الديمقراطي جيمي كارتر، لأنه حرمه من الفوز بمنصب الرئيس عام 1976، لذلك واصل سعيه إلى المنصب حتى ظفر به، وفاز على كارتر نفسه في انتخابات الولاية الثانية، فكان كارتر بذلك واحداً من الرؤساء القلائل الذين فشلوا في إعادة انتخابهم لولاية الثانية، بينما ريغان بقي في البيت الأبيض ولايتين متتاليتين، بل وكان سبباً بما رسخه من دعائم الحزب الجمهوري لانتخاب نائبه جورج بوش الأب لولاية جمهورية ثالثة على التوالي، عام 1988. ويبدو أن الرئيس الجمهوري الحالي دونالد ترامب يشبه ريغان في حقده على الديمقراطيين، وبالتحديد على باراك أوباما، ونائبه جو بايدن الذي ألحق به الخسارة في انتخابات ولايته الثانية، التي خسرها أمامه عام 2020، ومن ثم عاد «لينتقم» بعد ان فاز بشكل لم يتكرر كثيراً فيما سبق من انتخابات للرئاسة الأميركية، وذلك في انتخابات العام 2024.

واذا كان رونالد ريغان قد دخل التاريخ كواحد من أهم الرؤساء الجمهوريين، حين أطلق حرب النجوم ضد الاتحاد السوفياتي خلال ثمانينات القرن الماضي، بما ارهق اقتصاد الخصم العالمي، الى ان انهار ومعه منظومته العالمية التي كان يقودها، التي كانت قد منعت أميركا من السيطرة على العالم، منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية، وكان ذلك رسمياً فيما اعتبر «ولاية ثالثة» لريغان، أي خلال ولاية سلفه جورج بوش الأب، بينما ذهب كارتر كرئيس سجل في تاريخه فقط توقيع اتفاقية السلام بين مصر واسرائيل، بعد أن دخل البيت الأبيض كتعبير عن غضب الناخب الأميركي على ما قام به سلفه ريتشارد نيكسون ونائبه جورج فورد من تجسس على الحملة الانتخابية لخصمه عام 1972 جورج ماكغفرن، لكن للأمانة لم يسجل ريغان موقفاً يدل على قيامه بالانتقام الشخصي من كارتر او الديمقراطيين، رغم انه اطلق العنان للسياسة المحافظة داخلياً وخارجياً للسطوة الأميركية، بما فتح الباب امامها لزعامة العالم منفردة بعد ولايتيه بسنتين فقط.

أما ترامب، وهو رئيس إشكالي على اي حال، ولم يخرج لا من عباءة الحزب الجمهوري، ولا من «جراب» مؤسسات النظام السياسي الأميركي، بل خرج من عالم رأس المال، وبالتحديد من عالم تجارة العقارات، لذلك فإن سياساته ومن ثم قراراته تتسم بشيء واضح من العشوائية والتضارب، كما تتميز مواقفه بالتقلب، وأبعد من ذلك يظهر البعد الشخصي فيما يتخذه من قرارات، ولعل أوضح الأمثلة على ذلك، هو ما اتخذه من قرارات جاءت بالضد مما سار عليه سلفه في ولايته الأولى، أي باراك اوباما، ومما اتخذه من قرارات سلفه في ولايته الثانية، أي جو بايدن، ففي ولايته الأولى سارع ترامب الى التنصل من اتفاقية 5+1 الموقعة مع ايران حول برنامجها النووي، والتي وقعت عام 2015، اي في السنة الأخيرة من ولاية باراك أوباما، كما اتخذ قرارات مفارقة لكل ما سار عليه من سبقوه من الرؤساء، فيما يخص ضم اسرائيل الجولان السوري، او نقل السفارة الأميركية الى القدس، أما في ولايته الثانية، فقد اعتبر ان بايدن هو من تسبب بالحرب بين روسيا وأوكرانيا، واحتضن الرئيس الأوكراني وشجعه على الحرب ضد جاره الروسي، لذا سارع فوراً محاولاً وقف تلك الحرب ومظهراً عداء شخصياً تجاه زيلينسكي، ومودة تجاه بوتين!

لا يبدو ان هذا هو السبب الوحيد لإعلان ترامب انه يسعى لإطفاء الحروب المختلفة في العالم، ولا من أجل نيل نوبل للسلام، وان كان يعتبر ذلك مكافأة على ما يفترض أنه حققه بمجرد الإعلان عنه، بل كان الهدف الرئيس لكل من بايدن وترامب هو المحافظة على زعامة أميركا للعالم، عبر الإبقاء على النظام العالمي الحالي، باحتواء التحديات السياسية من روسيا وإيران وفنزويلا وكولومبيا، وكل دول العالم التي لا تحني رأسها لواشنطن، والتحديات الاقتصادية التي تظهرها الصين ودول أخرى، لذلك فإنه اذا كان بايدن سعى أولاً الى الحفاظ على النظام العالمي الأميركي من خلال كسر روسيا أولاً، فإن ترامب سعى لتحقيق الهدف نفسه من خلال كسر الصين أولاً،

مترافقاً ذلك مع شعار «سلام القوة» فيما يخص مناطق الحروب، خاصة في الشرق الأوسط، وتمثل ذلك في استخدام القوة المفرطة في حرب خاطفة كما فعل مع ايران، تجنباً لحرب تقليدية طويلة الأمد كما حدث خلال عامين في الشرق الأوسط، وكما ما زال يحدث في شرق اوروبا بين روسيا واوكرانيا منذ ما يقارب من اربع سنوات.

لكن يبدو انه لا مفر امام أميركا من التسليم بتغير العالم، ومن ان نظاماً عالمياً جديداً آخذ في التشكل بديلاً للنظام العالمي الأميركي، حيث قد تكون ولاية ترامب الحالية هي آخر المحاولات الأميركية للبقاء سيدة وحيدة للعالم، ذلك ان «إرهاصات» الانتقال نحو النظام العالمي الجديد بدأت في الظهور داخل أميركا نفسها، وذلك باشارات انقلابية في المواقف التقليدية سواء تجاه اسرائيل والشرق الأوسط، او تجاه الأقليات الملونة العرقية والطائفية داخل أميركا، وحتى تجاه معادلة الفقر والثراء، ولعل ما وقع في نيويورك عاصمة التجارة العالمية، خير دليل على ما نذهب اليه، لأجل ذلك فإن أميركا باتت في عجلة من امرها، ولأنه صحيح ان ترامب هو الرئيس الذي بيده القرارات الأهم، إلا انه صحيح ايضا أن أميركا دولة مؤسسات، ولا نقصد بالمؤسسات، مؤسسات النظام السياسي وحسب، بل مؤسسات المال والبزنس الذي صار «معولماً»، ولعل نموذج تدخل وتأثير أيلون ماسك وغيره في السياسة الأميركية بما في ذلك ما ذهب اليه ترامب من تعرفات جمركية دليل على ما نقول.

وحيث ان الوقت يضيق امام أميركا مع بدء التسليم بارتخاء قبضتها المحكمة على النظام العالمي، فلا أقل من ان تبقى أميركا بشكل مؤكد كقطب رئيس في نظام عالمي قد يتشكل من عدة أقطاب، تتباين بين اثنين الى أربعة أقطاب، استناداً الى القوة الاقتصادية العالمية، او القوتين الاقتصادية والعسكرية السياسية، او اخذاً بعين الاعتبار احد طريقين للانتقال لنظام عالم جديد، احدهما انقلاب العالم القديم بالكامل لصالح نظام عالمي جديد، وهذا على الأغلب يحدث بشكل قسري او حاد، أي بعد حرب طاحنة، لا تبدو مرجحة في ظل التوازن النووي العالمي، بين الأقطاب الأربعة، أي أميركا، روسيا، الصين والاتحاد الأوروبي، والثاني الانتقال للنظام العالمي من خلال تعديل معادلة التوازن في النظام العالمي الحالي، بإقرار أميركي بالتنازل عن موقع القائد المستبد، لصالح قيادة جماعية عالمية.

المهم في هذا كله هو ان ترامب وهو صورة النظام الأميركي، على أي حال، ما زال يتصرف كرئيس للعالم، بل وكرئيس مستبد، فهو بعد ان بدأ عامه الأول بإطلاق التهديدات بضم كندا وقناة بنما وجرينلاد، وبقرارات التعرفة الجمركية ضد كل دول العالم، ها هو قبل ان يقفل عامه الأول في البيت الأبيض، لا يتردد في التدخل في شؤون الدول الأخرى، مع أن هذا لا يمت للديموقراطية بأي صلة، ولا حتى تدخله في انتخابات الولايات الأميركية وبلدياتها، كما فعل تجاه الانتخابات البلدية لنيويورك، حين هدد بوقف المساعدة المالية الفيدرالية عن المدينة في حال انتخاب زهران ممداني، ثم تدخل في الشأن الداخلي القضائي الإسرائيلي من خلال مطالبة القضاء الإسرائيلي بالعفو عن بنيامين نتنياهو المتهم بقضايا الفساد، وكذلك فعل أيضا في انتخابات التجديد النصفي في الأرجنتين، حين هدد بوقف المساعدات عن بوينس آيرس في حال خسارة حزب الرئيس اليميني خافيير ميلي، وها هو الآن يتدخل في الانتخابات الرئاسية لهندوراس، بدعمه للمرشح اليميني نصري عصفورة.

لكن أوضح دليل على عشوائية وافتقار مواقف وقرارات ترامب للأخلاق السياسية، يظهر من خلال تهديده فنزويلا ومن قبلها او معها كولومبيا بالحرب، بحجة انها اي فنزويلا تساعد مهربي المخدرات على ترويجها داخل أميركا، وذلك في الوقت الذي يدعم فيه سياسياً المرشح اليميني في هندوراس، حيث اشترط فوز عصفورة العضو في الحزب الوطني، لاستمرار المساعدات الأميركية لهندوراس، والحزب الوطني الهندوراسي هو نفس الحزب الذي كان ينتمي اليه الرئيس السابق خافيير اولاندو هرنانديز، الذي حكم عليه بالسجن في الولايات المتحدة لمدة 45 سنة بتهمة الاتجار بالكوكايين، وقد أثبتت المحكمة الأميركية انه حول بلاده خلال فترة رئاسته بين عامي 2014 - 2022 إلى دولة مخدرات، أما الأنكى من كل هذا فقد كان إقدام ترامب على إصدار قرار بالعفو عن هرنانديز الذي هرب لأميركا 400 طن مخدرات، ليغادر سجنه في فرجينيا أول من أمس.