نشر بتاريخ: 2025/12/10 ( آخر تحديث: 2025/12/10 الساعة: 19:48 )
عدلي اليازوري

في اليوم العالمي لحقوق الإنسان.. غزة تكشف زيف الشعارات الدولية

نشر بتاريخ: 2025/12/10 (آخر تحديث: 2025/12/10 الساعة: 19:48)

الكوفية في كل عام، يخرج العالم ليكرر احتفاله باليوم العالمي لحقوق الإنسان، ويرفع هذا العام شعاراً يبدو بسيطاً في معناه عميقاً في دلالته: "حقوق الإنسان، أساسيات حياتنا اليومية".

لكنني، كمراقب لما يحدث في غزة والضفة الغربية، لا أستطيع المرور على هذا الشعار دون أن أتساءل: أي أساسيات يتحدث عنها العالم بينما تُسلب من الفلسطينيين أبسط مقومات الوجود؟ وأي حقوق يمكن الاحتفال بها بينما يموت الأطفال والنساء كل يوم تحت القصف أو بسبب غياب الدواء؟

 

في غزة، لا يحتاج الإنسان إلى تقارير دولية ليدرك حجم الكارثة.

يكفي أن ينظر إلى صور الأطفال الخارجين من بين الأنقاض، والأم التي تُنتشل مع طفلها جثة واحدة، والعائلات التي تمحى بالكامل خلال ثوان.

هنا، لا نناقش انتهاك حق أو اثنين، بل نتحدث عن إبادة يومية للمدنيين، وعن انهيار منظومة الحياة نفسها.

 

لم يعد الحديث عن حقوق الإنسان ترفاً فكرياً، بل سؤال نجاة.

هل يحق للطفل أن يستيقظ في اليوم التالي؟

هل يحق للأم أن تطمئن إلى أن سقف بيتها لن يسقط على عائلتها؟

هل يحق للمريض أن يجد الدواء الذي ينقذ حياته؟

هذه الأسئلة البسيطة التي لا يفكر فيها معظم سكان العالم، أصبحت في غزة محور الحياة والموت.

 

في غزة.. صحة بلا صحة ومستشفيات بلا دواء، ما يحدث في المستشفيات وحده يكفي لإدانة العالم كله.

الأطباء يعملون في ظروف لا يتحملها البشر، المرضى يموتون لأن الأجهزة تعطلت أو لأن شحنة الدواء لم يُسمح لها بالدخول.

الأدوية المنقذة للحياة تختفي، والعمليات الجراحية تُجرى أحياناً بلا مواد تخدير كافية، والمرضى المصابون بالأمراض المزمنة يعيشون على خط فاصل بين الحياة والانهيار.

 

في عالم يتحرك لإيصال دواء إلى أبعد قرية نائية، تُترك غزة مكشوفة بلا علاج ولا أجهزة ولا كهرباء.

إنها ليست كارثة صحية فقط، بل إعلان صريح أن حياة الفلسطيني يمكن أن تُختزل إلى رقم، وإلى انتظار عبثي لدواء قد لا يأتي.

 

في الضفة الغربية، واقع يخنق أساسيات الحياة بصمت أعمق، هناك يجري شكل آخر من الانتهاكات لا يقل خطورة. اقتحامات متواصلة، اعتقالات جماعية، هدم وقتل يومي، اعتداءات وتغول المستوطنين، وإغلاق الطرقات.

هنا لا ينهار السقف على رؤوس الناس، لكن الحياة كلها تنكمش تحت ضغط يومي وحرمان من أبسط الحقوق والعيش بكرامة.

 

المبادئ الدولية، نصوص جميلة وعدالة معلقة. وأكثر ما يثير الألم هو المفارقة بين المواثيق الدولية وبين واقع الفلسطينيين.

العالم وضع قوانين لحماية المدنيين في النزاعات، ولضمان وصول المساعدات الإنسانية، ولتحريم العقاب الجماعي، ولمنع استهداف المنازل والمستشفيات والمدارس.

هذه المبادئ لم تُكتب عبثاً، بل كتبت بعد حروب وأزمات تركت آثاراً عميقة ودروساً للبشر علهم يتعلموا منها.

 

لكن في غزة، تبدو هذه المواثيق مجرد جمل منمقة لا تتحرك ولا تُنفذ.

المدنيون يُقتلون بلا حساب، الأطفال يُدفنون تحت البيوت، النساء تُقصف داخل ملاجئ ظنوا أنها آمنة، والمستشفيات تُحاصر بلا دواء ولا كهرباء.

وفي الضفة، حجم الإنتهاكات والتوسع والتغول الاستيطاني تكسر كل ما كُتب في القانون الدولي.

إذا كانت هذه المبادئ لا تنطبق على الفلسطيني، لمن وُضعت إذاً؟

 

الأصعب في كل ما يجري ليس حجم الدم ولا أعداد الضحايا، بل أن العالم يرى كل ذلك بوضوح مخيف، ويختار الصمت. يرى الطفل الذي يرفع روقة عليها اسمه بيد مرتجفة كي لا يُدفن مجهول الهوية، ويرى الأم التي تبحث عن دواء لابنها وسط طوابير الانتظار حتى يتوقف قلبه بين يديها، ويرى المستشفى الذي يتحول من مكان للشفاء إلى غرفة مظلمة يتكدس فيها المرضى بانتظار معجزة لن تأتي.

يرى ذلك كله، ثم يختار الصمت، أو يكتفي ببيانات لا ترفع حجراً ولا تنقذ روحاً.

إن أخطر ما يمكن أن يواجهه الإنسان هو أن يشعر بأن موته لا يزعج أحداً، وأن حياته لا تمثل وزناً في ميزان العدالة الدولية.

وحين يصل العالم إلى مرحلة يتعامل فيها مع قتل المدنيين ومنع الدواء على أنه تفاصيل جانبية، فهذا يعني أن المنظومة الأخلاقية برمتها وصلت إلى حد الانهيار.

 

حين يرفع العالم أن شعار حقوق الإنسان أساسيات يومية، فإنه يعترف بأن هذه الحقوق ليست ترفاً، بل حاجة ضرورية مثل الطعام والماء.

لكن في غزة، هذه الأساسيات تُنتزع عمداً، ويُترك الناس في مواجهة الموت بلا حماية ولا ضمانات.

لا ماء يكفي للشرب، لا غذاء يكفي للبقاء، لا دواء ينقذ حياة، ولا لحظة أمان يمكن للطفل أن يطمئن إليها.

أي احتفال يمكن أن يقف فوق هذه الحقيقة؟ وأي معنى لحقوق الإنسان إذا كانت عاجزة عن حماية الإنسان وهو تحت القصف؟

 

في هذا اليوم العالمي، لا أرى مناسبة للاحتفال، بل فرصة لمساءلة ضمير العالم.

الصمت أمام قتل الأطفال والنساء، وأمام حرمان المرضى من الدواء، وأمام حصار المدنيين، هو سقوط أخلاقي لا يمكن تجميله بالشعارات.

إذا أراد العالم أن يثبت أن حقوق الإنسان ليست مجرد كلمات، فعليه أن يبدأ من غزة والضفة الغربية، وأن يعيد للفلسطيني حقه في الحياة والكرامة والأمان.

فلا معنى لحقوق الإنسان ما دام هناك شعب كامل يعيش خارج أبسط أسس الحياة التي يدعي العالم أنه يدافع عنها.