شهادات غزة: موت الروح أصعب من موت الجسد

ريما كتانة نزال
شهادات غزة: موت الروح أصعب من موت الجسد
الكوفية في الشهادات القادمة من غزة بعد أكثر من 660 يوماً على الشروع في تنفيذ مجزرة الإبادة الجماعية، تحدثت النساء المشاركات كثيراً عن التجويع ومخاطر الحصول على الطعام، ركّزوا الأنظار على عظام أطفالهم وأمعائهم الفارغة وعلى عيونهم الجاحظة، تحدثوا عن عجز اللغة وحيادها عن ملامسة البؤس الذي يحيط بهم من جميع الجوانب، وعلى تصوير ومقاربة الحجم والموقع الذي تخلقه المقتلة من آثار طويلة الأمد سيمتد تأثيرها لسنوات قادمة، فالكارثة ليست ناجمة عن أزمة في الغذاء أو عن كارثة طبيعية أو جائحة.
تحدثت الشهادات عما لا نعرفه أو نلتفت إليه، انتقلوا بشهاداتهم إلينا، إلى مستوى تعاطينا مع الجريمة المرتكبة بحقهم دون أن تؤثر وتخلق تأثيراتها الافتراضية، عقد بعض المقارنات لتوضيح الفرق بين من يعيش في رام الله ومن يعيش في غزة. قالوا بأنهم يستيقظون
من نومهم في الصباح الباكر على صوت قصف الصواريخ والطائرات للبيوت والمنازل، بينما نصحو من نومنا على أصوات المنبهات الهاتفية، قالوا بأننا في الوقت الذي نشكو فيه من أزمة الرواتب وازدحام الشوارع والمقاهي والمولات، تشكو غزة من أزمة الثلاجات المزدحمة بجثث الشهداء..
صحيح ما ذهبوا إليه من تطوير للشهادات ومستوى النقاش وتشعباته، فالتظاهرات والوقفات التضامنية ضعيفة وهزيلة، ولا ترتقي لمستوى سياقات غزة في غالب الأحيان، إن لم نقل أنها متقطعة ولا تنتظم على إيقاع الحرب الوحشية الدائرة بكل أدوات الحرب وأشكالها، حتى التظاهرة الأخيرة التي قرعت الطناجر الفارغة لتحريك الضمائر، لم تجد تلك التوقعات الافتراضية، صرخة أمعاء غزة الفارغة لم تُسمع في رام الله!
هل الاعتياد على المشهد قاتل خفي يتربص بنا في المقاهي والمطاعم والشوارع؟ هل هو أمر طبيعي أن تعيش مدن الضفة حياتها بشكل طبيعي رغم إدراكها بأن الحال واحد والملفات مترابطة واستمرت كذلك حتى في واقع الانقسام..؟ فلن يتأتى النأي بالنفس بعيداً عن غزة ولا يمكن لغزة أن تبتعد عن الضفة، كجناحين يحلقان معا وينكسران معاً، وبأن النأي بالنفس لا يحمي أحداً بالمعنى الفردي والجمعي، فبينما تُباد عائلات بأكملها في غزة مع المنازل؛ وبينما تُجرّف الحقول والمزارع والشواطئ والحدود، ويصبح اقتلاع الحياة من جذورها كأمر عادي وروتيني، بينما روتين الحياة في رام الله على الأقل يمشي على وقع آخر، هكذا يبدو الأمر لهم، بينما الجميع يعيش في زمن الإبادة والتطهير العرقي، ولا أحد سينجو من الاحتلال وممارساته!
هل فقدت الصورة أثرها وصداها، بينما اخترق الصوت مع الصورة العالم وانتقل من بلد إلى آخر، لتتمكن الصورة من إنتاج التفاعل لتنطلق التظاهرات التضامنية الحاشدة في بلدان كانت تعتبر معادية، تقليديا، للقضية، وجاءت القوارب والقوافل التضامنية في قوارب تقطع البحار للوصول إلى شواطئ غزة، لكسر الحصار أمام دخول المساعدات الغذائية وإدانة التجويع والإبادة، رافعة صوتها عالياً لوقف الحرب وكسر الحصار، حيث أصبحت القضية الفلسطينية كإحدى قضايا الرأي العام.
لماذا لم تفقد الصورة المريرة أثرها على بلاد بعيدة في أميركا وأوروبا، ولم تعتد الجموع المهتمة في القارتين على الصورة أو تتكيف معها رغم القمع الذي تتعرض له حراكات التضامن أيضاً، هل أفقد تكرار المشاهد الأثر على الفلسطيني بينما زاد التكرار من مستوى التفاعل فأخرج الناس من بيوتها، بينما حوّلها التكرار في بلادنا إلى مشاهد نمطية على المنصات؟ هل يعتاد الناس على روتين المقتلة لتصبح أقل وحشية! جاعلاً من الحراكات كأمر ممل أو في الحد الأدنى لا تتناسب مع الحدث ولا تطاله بشكل متناسب في الضفة الغربية أو في الدول العربية، حيث نجتمع معاً على منصات اللغة والدين والجغرافيا، بينما يتحرك من لا تجمعهم العناصر المذكورة، وهي العناصر التي اعتبرت يوماً تمهد وتسوّغ للوحدة العربية، لكن مبادئ الانسانية والعدالة والحرية والحق والانتماء للبشرية جمعتهم مع غزة!
ما الذي يقف حائلاً دون مشاركة المجتمع بشكل عام في التعبير الملموس ضمن الأشكال المعروفة والمعتادة مع غزة، وأسباب المنع الذاتي للتعبير عن المشاعر وعن إبداء التضامن والتعاطف مع وجع غزة وجوعها، وحال دون وصول أصوات أمعائهم الخاوية أن تُسمع في رام الله وكل مكان، فلا يمكن إنكار التعاطف والتضامن وانتفاؤهما حتى مع عدم إبدائهما الظاهري الملموس! هل يقف تبلد المشاعر والانفصام عن الواقع خلف الإحجام؟.. الجواب سيكون أكثر مرارةً، لأن ما هو أصعب من موت الجسد هو موت الروح.
هو السؤال الذي لا بد من نقاشه لوضع اليد على الأسباب التي لا ينبغي الذهاب بها إلى الإجابات البسيطة، حتى تلك الأسباب الموضوعية المعروفة، سواء ما له علاقة بالانقسام البغيض المستمر منذ سبعة عشر عاماً وأكثر، وما خلفه من تباينات وخلافات منهجية بالرأي والمواقف بما فيها عدم نشوء بدائل تنظيمية جديدة، دون استثناء انعكاس الحالة العامة والتجارب وفقد الثقة والإحباط وآثارها المريرة على انسداد الأفق أمام الاستنهاض، لتتمخض بالنتيجة عن الشعور بالهزيمة الذاتية وتركها تُشرش في الدواخل، بينما على مقربة منا نرى تظاهرة سخنين الحاشدة رغم قمع الاحتلال لها، خرجت الجماهير الفلسطينية بدعوة من قيادتها التي عملت على بناء موقفها، جاعلةً منها مرجعيةً صادقة لها.