نشر بتاريخ: 2025/07/30 ( آخر تحديث: 2025/07/30 الساعة: 11:59 )
توفيق أبو شومر

«سـنُـطـعـم غـزة بـالـمـلـعـقـة»!

نشر بتاريخ: 2025/07/30 (آخر تحديث: 2025/07/30 الساعة: 11:59)

سأظل أتذكر بعض صفحات التاريخ، عندما حاصر النازيون ستالينغراد الروسية في الحرب العالمية الثانية (1941–1944)، حاصر النازيون المدينة 870 يوماً ومنعوا الأغذية والطعام، فمات أكثر من مليون مدني بفعل سياسة التجويع! على الرغم من ذلك تمكنت روسيا من إعادة نظم المجتمع الروسي، وإعادة تأهيله خلال سنوات طويلة اعتماداً على الخبراء في مجال علم النفس، والتربية والتعليم والاقتصاد وإنتاج برامج التطوير والحضارة، وتمكنوا بعد جهد طويل من منافسة العالم في التقدم والتطور!

كذلك عانت اليمن عام 2015 من التجويع، ومات بسبب سياسة التجويع آلاف الأطفال! كذلك الحال في سورية عام 2013-2016 وفي السودان كذلك.

وفي البوسنة عام (1992–1996) حينما حاصرت القواتُ الصربية المدينة ومنعت الغذاء والكهرباء، ما أدى إلى مجاعة شعبية وقتل الآلاف على الرغم من تدخل وكالات الإغاثة الدولية.

ما الهدف من سياسة التجويع التي تجري على الفلسطينيين منذ سنوات طويلة، هذه السياسة وصلت إلى ذروتها في حرب الإبادة منذ السابع من أكتوبر 2013م؟

سؤالي المتعلق بهدف سياسة التجويع الممارس ضد الفلسطينيين تعود إلى عام 2005، عندما أعلن شارون انسحابه من غزة، حينئذٍ صرح مُستشاره الشخصي، دوف فايسغلاس قائلاً: "سنطعم غزة بالملعقة، وفق أقل السعرات الحرارية" مع العلم أنَّ سياسيي إسرائيل أعلنوا منذ اليوم الأول هدفهم الرئيس من هذا التجويع، هو التهجير وإعلان الخضوع، والتطويع!

ما أكثر المحللين الذين اعتادوا أن يحللوا هذه السياسة في وسائل الإعلام، فهم يشيرون دائماً إلى القوانين الدولية التي تحرم استخدام التجويع آلية لتحقيق المآرب المبتغاة من هذه السياسة، فهم يشيرون دائماً إلى قرار مجلس الأمن الدولي وقم 2417 عام 2018 الذي يعتبر سياسة التجويع جريمة حرب خطيرة، إن هؤلاء يعرفون بأن عدد القرارات الدولية التي جرّمت سياسات إسرائيل العنصرية لا تُعدُّ ولا تحصى، وكلها رفضتها إسرائيل ولم تعترف بها حتى اليوم! وهم عندما يذكرون القرار السابق يظنون أن إسرائيل طالتها الإدانة، وأنهم قد أفرغوا غضبتهم التحليلية بذكر هذا القرار!

ولكن ما آثار التجويع على القيم الأخلاقية؟ سؤال ينبغي أن يناقشه المحللون، وبخاصة المختصين بعلم النفس الاجتماعي، لأن مخططي سياسة التجويع يهدفون إلى إفشال الأجيال القادمة من الفلسطينيين، ليظلوا متخلفين لا يستطيعون إدارة حياتهم أجيالاً طويلة بفعل انتشار الجرائم والموبقات، وبخاصة جيل الأطفال ممن حرموا التربية والتعليم، بعد تدمير مدارسهم ومعاهدهم، وتحولوا إلى مُجوَّعين همهم الرئيس البحث عن الغذاء والماء!

إن المحتلين بارعون في وضع سيناريوهات المؤامرات، هدفها الرئيس القضاء على إنسانية الإنسان الفلسطيني، بتحويله من حالم بمستقبل واعد إلى نهَّازٍ للفرص وقاطع طريق، وليس من قبيل المبالغة القول بأن خطة المحتلين لا تستثني إفقاد المواطن الفلسطيني مدخرات فلسطين الوطنية، المتمثلة في التحرر والانعتاق من الذل والمهانة، وحرمانه من المشاركة في صياغة مستقبل فلسطين!

فقد عمد المحتلون خلال أكثر من ثمانية وسبعين عاما من استخدام كل أنواع العقوبات، ومارسوا كل أشكال العنصرية، وأشعلوا الحروب، ودمروا الممتلكات، وهجروا أهل البلاد الأصليين، واعتمدوا سياسة الاغتيالات، ولكنهم لم يحققوا ربحاً كبيراً، فقد ظل الفلسطينيون يتحدون المؤامرات، وينجحون في التخلص من تلك المؤامرات!

غير أن التجويع وسياسة محو قطاع غزة بالكامل وهدم بيوت الضفة العربية هذه المرة كانت هي الأبشع في تاريخنا الفلسطيني كله، لأن المحتلين الإسرائيليين استفادوا من أخطاء مشعلي هذه الحرب من حركة حماس، وراكموا أخطاءهم خلال عدة أيام، لتتحول هذه الأخطاء مرة أخرى إلى نوع جديد من الهولوكوست، وصارت رمزاً جديداً لتهمة اللاسامية!

إن دول العالم تتنافس اليوم في مجال التربية والتعليم لأنها طريقهم للمستقبل، أما نحن الفلسطينيين ممن كنا معلمين ومثقفين لكثير من الدول، ها نحن اليوم قد تركنا جيلاً كاملاً سنتين من الزمن بلا مدارس أو معاهد وجامعات، وبدون تصميم مخطط تربوي للطوارئ، وغضضنا الطرف عن تحول أبنائنا من جيل يسعى للمستقبل عبر النظام التعليمي الفلسطيني إلى جيل مشردٍ، لا يختلف كثيراً عن أجيال أطفال الشوارع العنيفين، ممن يحاولون البحث عن الغذاء وإنقاذ أسرهم بأي وسيلة من الوسائل! إن كل الذين لهم خبرة طويلة في التربية والتعليم يدركون بأن إصلاح التعليم في مدننا المدمرة خلال العامين السالفين يحتاج إلى عقود من الزمن، وإلى ميزانيات ضخمة لإعادة بناء صروح التربية والتعليم، لكي نستعيد ترتيب نظامنا التعليمي الفلسطيني، ونعيد صقل وعلاج أبنائنا المشردين من جديد!

إن المنافسة بين دول العالم في مجال التعليم تعتمد على المناهج المطورة وعلى المدرسين الأكْفاء، ولكنها تعتمد أيضاً على عدد ساعات الدوام الدراسية، لأن التفاضل بين البلدان يعتمد على عدد ساعات الدوام المدرسية وعلى المناهج وحداثتها، وليس على الصدفة والتمويل الخارجي، كما يحدث في كل دول العالم الثالث!

ففي الدنمارك يبلغ عدد ساعات الدوام المدرسي في السنة حوالي ألف ساعة سنوياً، وهي الأعلى عالمياً، ويأتي بعدها التعليم في دول التنمية الاقتصادية، يبلغ عدد الساعات في هذه الدول الثلاثين حوالي ثمانمائة وخمس وستين ساعة سنوياً! أما في روسيا فتنخفض عدد ساعات التعليم السنوية لتصل خمسمائة ساعة سنوياً فقط!

إن وطأة التجويع سلاحٌ خطير، استخدمه المحتلون بديلاً عن الاستعمار العسكري بمفهومه الاحتلالي البغيض! لأن آثاره المدمرة أشد خطورة من الاحتلال العسكري، لأن الاحتلال العسكري يُنتج مقاومة، ويجدد الوطنية عند الشعوب المستعمَرة، وهو أيضاً يُنتج أليات تجديدية للبنية المجتمعية والسياسية في كثير من بلدان العالم!

إن المخطط الاحتلالي لا يهدف فقط إلى تهجير سكان فلسطين إلى الخارج، بل يهدف أيضاً إلى نزع هذا الجيل من وطنه نفسياً، وإقصائه عن التاريخ الثقافي الفلسطيني الحضاري، وتحويل هذا الجيل إلى عالات اجتماعية وإلى طائفة من الكسالى المحبطين، ممن لا يتمكنون من المنافسة على مستقبل العالم في مجالات الإبداع والتفوق! هذا التجويع يهدف أيضاً إلى انتزاع المقدسات الفلسطينية من ذاكرة أجيال فلسطين وعلى رأسها تأسيس دولة فلسطين المستقلة! سأظل أتذكر حديثاً منسوباً للرسول محمد: "اللهم إني أعوذ بك من الجوع، لأنه بئس الضجيع".

أخيراً، لا يجب أن ننسى بأن للتجويع أثراً خطيراً على الأنثروبولوجيا الفلسطينية، ويتمثل ذلك في صعود مغامري تُجار السوق السوداء في الحروب إلى قمة الطبقة الاجتماعية الأولى المهيمنة، وإلغاء الكفاءات المبدعة وترحيلها، وربما يكون هذا الهدف هو من أسوأ ما حدث للشعب الفلسطيني طوال التاريخ!