«الضمّ» دخل في دائرة التنفيذ.. ولكن!

عبد المجيد سويلم
«الضمّ» دخل في دائرة التنفيذ.. ولكن!
الكوفية «الضمّ» كعملية قائم منذ عقود طويلة، وكان قد بدأ مباشرة بعد هزيمة حزيران 1967، وتمّ الإعلان عن ضمّ القدس الشرقية في حينه كجزء من الضفة الغربية، حين تمّ احتلال المدينة في إطار احتلال الضفة، إضافةً إلى شبه جزيرة سيناء المصرية، ومرتفعات الجولان السورية.
الاستيطان كعملية ومسار وبرامج وموازنات وسياسات، بصرف النظر عن الوتائر السياسية حسب الاعتبارات الحزبية، حيث تسارع بصورة كبيرة ونوعية إثر تسلُّم «اليمين» الإسرائيلي الحكم في العام 1977، ولم يتوقّف هذا التسارع إلّا في فترات عابرة ومؤقّتة لاعتبارات سياسية داخلية وخارجية، وتضاعف هذا الاستيطان لحوالى 7 مرات بين «أوسلو» ويومنا هذا، وبوتائر جنونية تحت قيادة «اليمين» الإسرائيلي الجديد، وهو يشكّل، اليوم، جوهر التوافق السياسي الأوّل بين مكوّنات الائتلاف الحكومي الفاشي القائم في دولة الاحتلال.
الاستيطان كعملية، وبهذا التسارع، وبهذه الوتائر ليس سوى التمهيد المادي، و»الأمر الواقع» الذي حاولت دولة الاحتلال أن تكرّسه لقطع الطريق على أي تسوية سياسية في الواقع الراهن، وفي المستقبل لمنع حصول الشعب الفلسطيني على حقّه المنصوص عليه في كلّ قرارات القانون الدولي، وبحيث أصبح الإعلان الرسمي عن منع قيام الدولة الفلسطينية هو «الإجماع» الجديد في الخارطة السياسية والحزبية.
الاستيلاء على الأرض ومصادرتها، وشقّ «الطرق الالتفافية»، واختيار التقاطعات الإستراتيجية في محاور الضفة، بل واختيار الأماكن التي تكرّس السيطرة على الأحواض المائية، والسيطرة على الموارد ومصادر الثروة، وخصوصاً الأراضي الزراعية الخصبة، وكذلك «إستراتيجية» السيطرة على التلال.. كلّها كانت، وما زالت المقدّمات التي تمهّد للضمّ عندما تنضج ظروفه، وعندما تتهيّأ المعطيات الداخلية، والإقليمية، والدولية المواتية للإقدام عليه.
بل وأكثر من ذلك فقد عملت دولة الاحتلال من خلال آلاف الأوامر العسكرية والقوانين والتعليمات لخلق واقع ديمغرافي جديد، بحيث يصل عدد المستوطنين في الضفة إلى أكثر من مليون مستوطن، وبحيث تحوّل الصراع من دائرة الاستيطان، والاستيلاء على الأرض، ومصادرتها، والتحكّم بحركة السكّان، والسيطرة على كلّ مفاصلها إلى دائرة جديدة هي «الصراع» بين مدنيين، وأهالٍ فلسطينيين ويهود، وبحيث تنحصر مهمّة جيش الاحتلال في فضّ النزاع بينهم، والسماح بحمل «السلاح» للمستوطنين، وذلك لما يتهدّدهم من «أخطار» نتيجة «الإرهاب» الفلسطيني!
يوجد حول كل هذه المعطيات من عمليات التمهيد «للضمّ» عشرات آلاف الوثائق الصادرة عن كلّ مؤسّسات القانون الدولي ذات الصلة المباشرة، وذات العلاقة العضوية من حيث جهة الاختصاص والصلاحية، إضافةً إلى تقارير أقرّها القانون الدولي، ويستمرّ في إقرارها تباعاً حتى وصلنا إلى محطّات مفصلية على هذا الصعيد، مثل «تقرير غولدستون»، والقرار حول جدار الفصل العنصري، والقرارات ومئات القرارات التي صدرت عن مجلس حقوق الإنسان في المنظمة الأممية، وتقارير مساعد الأمين العام، وتقارير المندوب السّامي المفوّض، ومقرّري مراقبة الانتهاكات، هذا بالإضافة إلى آلاف التقارير الدورية التي أصدرتها، وما زالت تصدرها المنظمات الدولية الكبيرة المختصة بحقوق الإنسان، بما فيها المنظمات الإسرائيلية نفسها.
لكن، وبالرغم من كلّ هذه التقارير التي أعقبتها مئات القرارات الصادرة عن منظمة الأمم المتحدة، وكلّ هيئاتها المختصّة لم تتراجع عمليات التمهيد المادي المتسارع «للضم»، ولم تتمكّن هذه المنظمات ولا لمرّة واحدة، ولا حول مسألة واحدة من إلزام دولة الاحتلال بأي شيء، مهما كان صغيراً أو هامشياً على كل، وفي مختلف مجالات الانتهاكات الصارخة للقانون الدولي.
والاستثناءات الوحيدة، والنادرة للغاية كانت هي استثناءات تتعلّق بقرارات من «المحكمة العليا» الإسرائيلية، وحول بعض، والقليل جداً من المصادرات لأن فيها مخالفات جسيمة لبعض الاعتبارات التي كانت معتمدة في تلك المحكمة آنذاك، والتي اختفت تماماً لاحقاً.
على هذا الأساس، وفي إطار المرحلة الجديدة من حكم «اليمين» الجديد والفاشي، وبعد الإعلان الرسمي عن إستراتيجية إنهاء الصراع، وبدء مسار مباشر وتنفيذي لتصفية القضية الفلسطينية من كل جوانبها، في مسألة القدس بعد الاعتراف الأميركي بكونها عاصمة «موحّدة» للدولة العبرية، وبعد الهجوم الذي شنّته دولة الاحتلال على «الأونروا» كرمزية لحقّ العودة، وبعد أن وقفت الولايات المتحدة وراء السياسات الإسرائيلية في أبشع صورها، والتي تمثّلت بالخروج الأميركي من بعض منظمات الأمم المتحدة، ووقف وسحب تمويلها، واستخدام كامل نفوذها السياسي العالمي بالضغط على حكومات العالم التي كانت تتوق لسيادة منطق الحق والعدل في مواجهة كلّ الانتهاكات الإسرائيلية.. بعد كلّ ذلك، توصّلت دولة الاحتلال إلى ثلاثة استنتاجات رئيسة أدّت بها إلى الشروع في مرحلة حسم الصراع، والتي كانت ستتوّج بالضرورة في الضمّ المؤكّد للضفة.
الأوّل، هو القناعة الإسرائيلية الراسخة بأن الولايات المتحدة ستساند دولة الاحتلال في كلّ الظروف، وأن الإدارة «الجمهورية»، ستساند وبحماس شديد، فيما ستتحفّظ لفظياً فقط الإدارة «الديمقراطية»، وبما لا يشكّل مطلقاً أي شكل من أشكال القيود على هذه الإستراتيجية.
والثاني، حالة الانهيار العربي التام والذي عبّرت عنه «الاتفاقات الإبراهيمية» التي لم تستوقف أحدا من أقطاب النظام العربي، إن لم نقل، إن هذه الأقطاب قد باركت هذه الاتفاقيات.
وأمّا الثالث، فهو حالة الانقسام الفلسطيني التي تحوّلت في واقع الأمر إلى حالة مستفحلة ومُزمنة، واستحكمت حتى تحوّل الانقسام إلى حالة استقطاب مَرَضي في الواقع السياسي والاجتماعي الفلسطيني، وتحوّل إلى مصالح خاصة، واعتبارات خاصة بكل فريق، وتجسّد في تمحورات وتحالفات بكل طرف، وبحيث تمّ زجّ الانقسام في أتون الواقع الإقليمي وتجاذباته، وبحيث أصبح وتحوّل إلى جزء «طبيعي» من صراعات الإقليم. و
بقي الموقف الأوروبي خارج التأييد المباشر لإستراتيجية الحسم الصهيونية، لكنه وبحكم ذيليّته وارتهانه للموقف الأميركي لم يتجاوز في مواقفه الكلام المفرغ من أيّ مضمون فعّال، بل وتراجعت المواقف الأوروبية إلى ما دون ما كانت قد درجت عليه أحياناً.
إلى هنا، لم يكن هناك أيّ صلةٍ أو علاقةٍ، لا من قريبٍ، ولا من بعيدٍ بـ»طوفان الأقصى»، وكانت هذه الإستراتيجية الصهيونية تسير بوتائر متسارعة، وكانت عملية التهام الضفّة قائمة على قدمٍ وساق، ولم يكن هناك أيّ مقاومة حقيقية فعّالة لهذه الإستراتيجية سوى بعض «المحاولات» الدبلوماسية المعهودة، وباستثناء بعض العمليات الكفاحية لبعض الفصائل الفلسطينية العاملة في الضفة، وخصوصاً تلك التي تنتمي بهذا الشكل أو ذاك لحركة «فتح».
تعتقد الأوساط الأكثر فاشية في «الائتلاف الحاكم» ــ وقد باتت حكومة أقلية ــ أن «طوفان الأقصى» قد بات يوفّر لها الفرصة السانحة والكاملة للشروع في عملية ضمّ لأكثر من 80% من الضفة، وإبقاء أيّ حالةٍ «كيانيّة» فلسطينية على 20% من الضفة فقط، وبحيث إضافةً إلى واجباتها الكاملة الأمنية، عليها أن تقوم هي بتحمّل الأعباء المالية والإدارية والخدماتية لكل سكّان الضفة، لأنّ «الضمّ» الذي تهدف له دولة الاحتلال هو ضمّ أقلّ من 20% من السكّان، حسب بعض التقديرات مقابل الضمّ الكامل لما يقارب الـ 80% من الأرض.
صحيح أن دولة الاحتلال لا يهمّها ــ حتى الآن ــ في العالم كلّه سوى موقف أميركا من «الضمّ»، ولكن الصحيح، أيضاً، هو أن توقيته في ظلّ «التسونامي» الشعبي العالمي ضدّ حرب الإبادة والإجرام، وبدء «تسونامي» سياسي «رسمي» من قبل بعض البلدان الغربية على هيئة اعترافات بالدولة الفلسطينية سيحوّل الأمر برمّته إلى مأزق جديد ليس للحكومة الإسرائيلية طبعاً، وإنّما لأي دولة كأميركا في ظروف الإبادة الجماعية والتطهير العرقي، وسيحوّل دولة الاحتلال إلى دولة الإبادة الجماعية والفصل العنصري والضمّ والتطهير العرقي ما سيشكّل عبئاً ثقيلاً عليها، أي على أميركا، وحتى دولة «ميكرونيزيا»، أيضاً.
فإذا كان العالم كلّه يحاصر دولة الاحتلال من كلّ الجهات على المستوى الشعبي، وإذا كان العالم «الرسمي» تحت وطأة الضغوط الشعبية بدأ يتنصّل من العار الأخلاقي والسياسي الذي سبّبته حرب الإبادة والتجويع فإن الضمّ سيشكّل طامةً جديدة ستزيد بصورة غير مسبوقة من حصار العالم للسياسات والممارسات الصهيونية، بما فيها عوالم الرسميات الدولية، وبما فيها تصاعد نوعي جديد في حجم الاجتياح الشعبي العالمي للرواية الصهيونية، وللثقافة الصهيونية، وللفكر الفاشي الذي يحكم منطق حكومة الجرائم والإبادة.
ولهذا لن تُقدِم لا هذه الحكومة، ولا غيرها على إعلان الضمّ الشامل والكامل، لأنها ببساطة ليست في وضع من يضمن تأييد أميركا لإعلان كهذا، وأغلب الظنّ أن العملية ستجري على مراحل، وبمناطق «مختارة» في الأغوار، وفي جنوب الضفة بالتزامن مع حشر السلطة والمنظمة في زوايا ضيّقة جدّاً وبما يشبه مرحلة مؤقّتة، وهي مرحلة ما قبل الاستغناء عن «خدماتها» لاحقاً.
وسيفرض على السلطة كرمز كياني ليس أكثر الحصار الشامل، ومن كل الجوانب، وعلى كل المستويات لعلّها تقبل بدورٍ خدماتي مجرّد رسمياً من أيّ اعتبار تمثيلي للحقوق الوطنية، وتقبل أن تتحوّل هذه الحقوق إلى مجرّد «بقاء» سياسي شكلياً، وإلى أجسام إدارية وخدماتية ومعيشية من حيث المضمون والجوهر.
وعلى كلّ حال لا كان الله في عون دونالد ترامب الذي يؤيّد الضمّ الجزئي على الأقل، والكلّي، إذا سمحت الظروف، بعد أن يتحوّل مثل هذا التأييد في الحالتين إلى صداع رأس جديد، يضاف إلى أوضاعه الصحّية، وإلى فشله المتكرّر، وحساباته للانتخابات النصفية، وهمومه الجديدة، بعد «قمّة شنغهاي» التي طرحته أرضاً، أو كادت.