حتى يبقى هناك شيء يعاد ترميمه

أكرم عطا الله
حتى يبقى هناك شيء يعاد ترميمه
الكوفية من المدهش أن تقرأ لبعض الذين فشلوا في التنخُّب يشجعون حركة حماس على التمسك بموقفها الراهن، وهم يعتقدون أنهم يمارسون السياسة بأستذة تخلو من ذكاء بمستوى يتناسب تماماً مع إبعادهم نحو هوامشها، لأن السياسة هي فعل الأذكياء الذي يقوم على تحصيل إنجازات لا إحصاء جنازات فتلك مهنة الحانوتي، السياسة تهدف للتحرير والتعمير لا استدعاء الاحتلال لمزيد من الخراب والتدمير، السيطرة على الأرض وأن تصفق للفعل بل وأبعد من ذلك يهاجمون عقلاء السياسة ومحترفيها.
الاستسلام هو فعل سياسي وجزء من أدبيات السياسة وليس دخيلاً على قواميسها، ويعكس أحياناً قدراً كبيراً من الذكاء في ممارستها بالتوقف في اللحظة المناسبة للحفاظ على ما تبقى قبل أن يلتهم الحريق كل شيء وليبقى شيء يعاد ترميمه وحتى لا ينتهي الشعب وحضارته ووجوده على أرضه، وخصوصاً عندما يدرك الطرف الضعيف أن لا حول له ولا قوة لمنع الآخر من سحقه وسحق شعبه.
وقد فعلها الكثيرون عبر التاريخ عندما خذلهم الميدان فغابت القوى التي وقعت الاستسلام لكن بقيت الأوطان والشعوب.
وهذا هو الأهم إلا لمن اعتقدوا أنهم الشعوب والأوطان وأن لا وطن دونهم مثلما لويس الرابع عشر ومقولته الأكثر سخرية في التاريخ «أنا الدولة والدولة أنا» أو مثل بيان البعث السوري الأول بعد النكسة «بأن العدو فشل في تحقيق أهدافه لأنه أراد إسقاط حزب البعث ولم ينجح» وهي ذروة التراجيديا الساخرة التي جسدها الماغوط في رائعته «ضيعة تشرين» بفشل إسقاط المختار حين اكتشف الأخير بسذاجة ماكرة أن هذا هو الهدف الحقيقي للحرامي وأقنع نفسه بذلك.
بالقطع لا يمكن إسقاط تجربة على الأخرى فلكل منها فرادتها، لكن التاريخ في سياقه العام هو مدرسة السياسة الأولى يصنع نظرياته العامة وهنا دور ذكاء الساسة في اشتقاق خصوصية التجربة من عمومية النظرية وإلا ما سبب خراب كثير من البلدان سوى حكم الفشلة والجهلة لكن التاريخ يتشابه في صراعاته إلى حد كبير حين تدور المعارك الكلاسيكية بين طرفين أحدهما قوي والآخر ضعيف وكيف تكون النهاية ومن يفرض الشروط ؟.
ودون ذلك تختلط السياسة بالأحلام بالهذيان ليصحو المنهزم على هزيمة كبرى بعد أن يكون انتهى كل شيء أو بعد فوات اللحظة والأوان، فالإقرار واتخاذ القرار الصعب هو قرار له لحظة أيضاً وإذا ما فاتت تكون الخسارة مضاعفة.
ماذا لو أدركت حماس مبكراً عقم المراهنة على استحالة الدخول البري وقد حصل؟ ربما لقطعت الطريق على تدمير غزة ولقطعت الطريق على مشاريع النزوح والتهجير وتفريغ غزة، ولكنّ لنشطاء التَنَخب رأياً آخر ونحن على أبواب تدمير واحدة من أهم مدن المتوسط والمدينة التي أعادت إنتاج التاريخ الفلسطيني الحديث وكأنهم يطالبون بتوفير ذرائع تدميرها ... وسيكون، دون أن يظهر أن لحماس الحد الأدنى من القوة لصد تلك القوة الكاسحة بفعل الدعم الأميركي المفتوح تسليحاً ومعلومات ودعماً مالياً وتغطية في المحافل الدولية ومنع الدول والمحكمة ومجلس الأمن من اتخاذ إجراءات وقف الحرب.
أدارت حركة حماس الحالة الفلسطينية بشكل لا يتناسب مع الحد الأدنى من الأداء السياسي أو العسكري أو الإداري، وتلك ربما نتجت عن الضوء شديد السطوع الذي لمع فجأة في وجهها حين خرجت من الزوايا نحو نور المجتمع فأصيبت بلوثة لحظة وصولها للحكم كجزء من حركة تحلم منذ ثمانية عقود بالوصول للسلطة وما أن وصلت حتى فقدت توازنها، وما أن تم تصنيع بعض السلاح الخفيف الذي يصلح لحرب التحرير الشعبية وحروب العصابات وإذ بها تحت وهج السلاح تشكل جيشاً كلاسيكياً من قوات مدفعية وبحرية وطيران وصاروخية لتصبح الحرب كلاسيكية، ولتجعل شكل النهاية يأخذ طابعاً كلاسيكياً كأنه بين الجيوش «المنتصر والمهزوم» فتحكم علينا وعلى نفسها بأم الهزائم.
لكن حروب التحرير الشعبية لا تكون لها تلك النهايات، فمن جعلها حرباً بهذا الشكل عليه أن يكملها بنفس السياق وإلا فالنتائج أمامنا وستكتمل بتدمير مدينة غزة وإرثها التاريخي.
بكل الظروف النتيجة واحدة تقررها موازين القوة، ولكن الفرق ما بين قدرة إسرائيل على الوصول للنتيجة بتدمير غزة أو الوصول لها قبل تدمير المدينة تلك تحدد مستوى إدراك السياسة ومستوى الأداء المعرفي ومستوى الاستعداد للتضحية بالنفس من أجل الشعب والوطن والإفراط في الذاتية حد التضحية بكل شيء حتى بمدينة عمرها آلاف السنين، غزة سيتم تدميرها كما باقي المناطق تحت جهل مبتدئي السياسة ومقارناتهم التي رأيناها وفشلة التَنَخُّب الذين يُنظِّرون لهم بشعارات تخلو من الحد الأدنى من الذكاء، وتعكس مستوى إدراكياً شديد التواضع فماذا سيقولون بعد سحق غزة؟ .
نقلاً عن الأيام..