إذا لم نستطع إيجاد الحلول فلنتخيلها

مهند عبد الحميد
إذا لم نستطع إيجاد الحلول فلنتخيلها
أمام أهوال حرب الإبادة التي تزداد وحشيةً وإجراماً ويزداد معها التهديد ببقاء المجتمع الفلسطيني، بعد قطع أشواط في تفكيك بنيته الاجتماعية والاقتصادية والإدارية والإنسانية. وأمام التفكير والأداء المفرط في هبوطه الذي قدمته قيادة المقاومة الإسلامية (حماس) منذ 7 أكتوبر وحتى اليوم 702 من أيام الحرب الأشرس في تاريخ الصراع. أمام هذا الواقع المأساوي، دعونا نتخيل استفاقة قيادة حماس بعد مغامرتها العسكرية غير المدروسة أو محسوبة النتائج. من حق المواطن أن يتخيل تنحّي قيادة حركة حماس والكف عن اتخاذ القرارات والرد على المبادرات، وطلب النجدة والمشورة من عقول فلسطينية وعربية وعالمية غير مرتبطة بالمال السياسي وأجنداته. تخيلوا لو يتشكل فريق إنقاذ من هؤلاء يضم خبراء وجهات اختصاص منحازين لمصلحة الشعب الفلسطيني الوجودية والوطنية. بحساب المنطق والتجربة سينصح الفريق المذكور قيادة حماس التي ثبت أنها غير مؤهلة لقيادة شعب بالتنحّي جانباً، والبدء بمراجعة تجربة الإسلام السياسي و»مقاومته الإسلامية» في فلسطين، واستبدالهم للهوية الوطنية بهوية دينية وللدولة الوطنية بدولة دينية من الناحية العملية. قد يقول البعض إن المراجعة لا تقتصر على الإسلام السياسي بل تشمل الجميع وهذا صحيح، مع مراعاة وجود علاقة بين الطرف المستهدف بالمراجعة والخطر المتأتي من سياساته، وفي حالتنا فإن خطر استمرار الحرب التي تساهم حماس في استمرارها يحتل الأولوية، وقد يقول آخرون إن الوقت غير ملائم للمراجعة المؤجلة دائماً، والتي شطبت من الحياة السياسية الفلسطينية. لقد ثبت أن المراجعة لا تنفصل عن الفعل السياسي أيام الحرب واللا حرب على حد سواء، المراجعة النقدية هي شرط للتطور.
أتوقع ان يبدأ الفريق المتخيَّل بالعمل على الانسحاب من حرب إبادة يشنها طرف واحد هو إسرائيل، ويسحق من خلالها المجتمع الفلسطيني على امتداد 702 يوم.. وهو ما تؤكده نتائج الحرب القائمة والمتوقعة. الخطوة الأولى هي وقف انجرار قيادة حماس إلى فخاخ ترامب ونتنياهو المتسارعة والمتغيرة. إن استفراد الثنائي بحركة حماس تحت ضغط القوة العمياء، أدى الى قبول حماس التدريجي بالشروط. وكان آخرها تسليم كل الرهائن في اليوم الأول والتفاوض بعدئذ على إنهاء الحرب الذي لن يكون إلا بشروط الطرف المهيمن. التفاوض الثنائي بوسطاء وبدون وسطاء يقود الى احتمالين؛ الأول استسلام حماس لشروط نتنياهو ترامب بضمانة الأخير، وهو الأكثر تطرفاً والذي عرف عنه ان كلامه في الليل يمحوه النهار. والاحتمال الثاني ذهاب قيادة حماس العسكرية الى خيار الانتحار وما يجلبه هذا الخيار من موت ودمار وتهجير للشعب. ما بين الخيارين هناك خيار ثالث هو الخيار الذي عبرت عنه وثيقة نيويورك التي تملك رافعة عربية دولية وفلسطينية. الوثيقة تتقاطع مع هدف نزع السلاح واستبعاد حماس من حكم قطاع غزة، لكن الوثيقة تنص على إنهاء الحرب وانسحاب إسرائيلي كامل من قطاع غزة، وتضع آلية للمرحلة الانتقالية توفر الحماية للمجتمع الفلسطيني، وتؤكد على ضرورة فتح أفق سياسي يمكّن الشعب الفلسطيني من تقرير مصيره، وهو وثيق الصلة بالمؤتمر الذي سيُعقد على هامش اجتماع الجمعية العامة يوم 22 أيلول الجاري، والذي سيعترف بالدولة الفلسطينية بمستوى غير مسبوق، وتلتزم الوثيقة بإعادة إعمار قطاع غزة، وإزالة القيود عن دخول الغذاء والدواء. شتان بين رؤية نتنياهو وترامب التي تقود الى التهجير وإعادة احتلال واستيطان قطاع غزة، وبين وثيقة نيويورك التي في أضعف الاحتمالات تضع أساساً قوياً لكل هذا، وتكبح الاندفاعة الإسرائيلية المتوحشة، وتحول دون استفراد إسرائيل الكهانية بالوضع الفلسطيني وبحركة حماس. كان ينبغي خروج حماس من حرب الإبادة منذ بداياتها، وأثناء وجود إدارة بايدن الديمقراطية التي كانت تدعم إسرائيل بقوة، لكنها وضعت خطوطاً حمراء ضد التهجير- إعلان طوكيو - وضد استخدام الغذاء والدواء كسلاح في الحرب، وضد استخدام الصواريخ الثقيلة في الأماكن المكتظة بالمدنيين، والأهم انها كانت مع إيجاد أُفق سياسي للصراع. وكان ينبغي خروج حماس من حرب الإبادة في بداية عهد ترامب أثناء تلقفه تريليونات الدولارات والهدايا منقطعة المثيل. وفي كل الأحوال ينبغي خروج حماس من حرب الإبادة اليوم قبل الغد، وبمشاركة المجموعة العربية الدولية كطرف وليس كوسيط، لأن خروج حماس من حرب الإبادة يعني إفلات 2.3 مليون فلسطيني في قطاع غزة من الحلقة الأشد فتكاً في حرب الإبادة، وحماية ما تبقى من منازل ومرافق أو أنصافها.
عندما تتنازل حماس في تفاوضها الفردي تحت الضغط العسكري والمزيد من الضغط والتهديد والابتزاز، فإن ذلك يفتح شهية حكومتَي الحرب الإسرائيلية والأميركية على مضاعفة الضغط. خلافاً لأي سياسي يعرف حدود القوة وعلاقاتها ويتراجع طوعاً قبل أن يُفرض عليه التراجع بالقوة. تعرف او قد لا تعرف قيادة حماس أن العودة الى ما قبل 7 أكتوبر، واستئناف ما يسمى بالهدنة والهدنة طويلة الأمد غير ممكن إن لم يكن مستحيلاً. عملياً انتهت مرحلة لعب قيادة حماس على التقاطع مع السياسة الإسرائيلية في فصل الضفة الغربية عن قطاع غزة وتهميش السلطة في الضفة الغربية، ومنع حل الدولة الفلسطينية. هذا التقاطع سمح لحماس بتلقّي الأموال القطرية بتسهيل لوجستي إسرائيلي في وضح النهار، وسمح بعدم قيام إسرائيل بحسم المعركة عسكرياً في المواجهات الأربع السابقة، والانتقال بعد كل معركة الى هدنة تمتد لسنوات وتحافظ خلالها حركة حماس على الأمن الإسرائيلي بتنسيق أمني غير مباشر، وسمح بإقامة قيادة المقاومة التي تدعو إلى إزالة إسرائيل وتتغنى بالعمليات التي تستهدف المدنيين. يبدو ان قيادة حركة حماس تسعى وتعمل بكل ما تملك من قدرات وتضحّي بالمزيد من مقاتليها والمزيد من شعبها وبما تبقى من مدن ومخيمات، من أجل العودة الى مرحلة هدنة طويلة الأمد تصل مدتها ما بين 10- 15 سنة كما يقولون. إذا ما وافقت إسرائيل على تجديد الهدنة، فما وظيفة تمسّك حماس بسلاحها؟ هل هو للحفاظ على الأمن ومنع قيام عمليات ضد إسرائيل مثلاً، أم لحفظ الأمن الداخلي، بعيداً عن وظيفة الحكم الجديد الذي وافقت عليه حماس؟ حيث سيكون الامن الداخلي مناطاً بشرطة جديدة مدربة بإشراف أميركي. إن تمسك حماس بسلاحها يعني تمسكها بالسيطرة غير المباشرة على قطاع غزة، يعني بقاء حكمها الفعلي، وهذا يعني عدم تخليها عن الحكم. لا تعلم حماس أن التاريخ لا يعيد نفسه، فإذا أتى في المرة الأولى بصيغة تراجيديا فإنه يأتي في المرة الثانية بصيغة مهزلة. هل ترغب حماس في إعادة إنتاج حكمها كمهزلة. الشعب أكبر من سلطة، والنضال لا ينتهي بجولة واحدة، وإنما بمراكمة الإنجازات الصغيرة والنقاط. وشكل النضال غير مقدس يتغير بحسب قدرته على تحقيق الأهداف. الثابت الوحيد الذي لا يتغير هو حق الشعب في التحرر والحرية.