خروج «حماس» من الحرب ومن المشهد السياسي

مهند عبد الحميد
خروج «حماس» من الحرب ومن المشهد السياسي
تتفق معظم التقديرات إن لم يكن كلها على الخطر الهائل وغير المسبوق المترتب على حرب الإبادة الإسرائيلية في قطاع غزة وحرب التطهير العرقي والتصفية في الضفة الغربية. وتتفق معظم التقديرات أن إدارة ترامب تدعم حرب الإبادة الإسرائيلية وتزيدها اشتعالا ووحشية بعد أن حررتها من كل قيد وشرط. ولا نختلف أيضا حول المخططات والأهداف والمشاريع الإسرائيلية والأيديولوجيا الدينية والأطماع الكولونيالية وثقافة الإنكار العنصرية الإسرائيلية السائدة. غير أننا نختلف على مدى عامين من الحرب على دور السياسات والمبادرات الفلسطينية في المساعدة أو عدم المساعدة في تحقيق الأهداف المعادية. نختلف تحديدا حول دور هجوم 7 أكتوبر في نقل تلك المخططات والأهداف من طور التحضير والإعداد والتنفيذ البطيء والمتقطع واقتناص الفرص، إلى طور الحسم بأقصى سرعة وتجاوز كل الاعتبارات التكتيكية.
إن تجاهل الذرائع التي قُدمت على طبق من ذهب للمعسكر الديني القومي العنصري الإسرائيلي منذ 7 أكتوبر وحتى اليوم ساهم في تهديد المجتمع الفلسطيني وجوديا، وقطع الطريق على نجاته من الإبادة والتهجير وإنقاذ المكان بمعالمه وتراثه الذي يشكل نواة (الوطن الفلسطيني) من التدمير والضم.
بسبب 7 أكتوبر، انتزعت إسرائيل قرارا غربيا مباشرا يمنحها «حق الدفاع عن نفسها» وإزالة الخطر الفلسطيني، الذي وصفته إسرائيل بأنه يشكل تهديدا وجوديا. ورغم أن شكل الدفاع الإسرائيلي عن النفس اتخذ شكل حرب إبادة، لم تفرض دول الغرب الداعمة لإسرائيل بالسلاح والمال خطوطا حمراء، ولم يتمكن النظام الدولي من فرض احترام القانون الدولي، واقتصر التدخل على المناشدة والاستنكار وحجب بعض الذخائر وكلها بما في ذلك القرارات الاحترازية الصادرة عن محكمة العدل الدولية لم تؤثر في مسار حرب الإبادة المتصاعد ولم تتمكن من إيقافها حتى الآن.
وبسبب مغامرة 7 أكتوبر، توحدت المعارضة الإسرائيلية مع حكومة نتنياهو تحت شعار «معا سننتصر»، وكانت المعارضة على وشك هزيمة الانقلاب القضائي وإسقاط حكومة نتنياهو الكهانية.
استمرت فصول الحرب التي استخدمها نتنياهو في إعادة تشكيل الشرق الأوسط وإعادة بناء إسرائيل ثيوقراطية فاشية. الآن، تدخل الحرب فصلا أكثر شراسة، حيث تنفذ حكومة نتنياهو محوا ممنهجا لمعالم غزة التاريخية وتراثها الثقافي، وتعلن على رؤوس الأشهاد أن مصير مدينة غزة التاريخية سيكون التدمير والتهجير كما دمرت مدينة رفح وبيت حانون وبيت لاهيا وخان يونس. الآن يجري تهجير وحشي لمليون فلسطيني على وقع الصواريخ التي تدمر الأبراج والبنايات والحياة في غزة ومخيماتها، مشاهد المنتزعين من بقايا منازلهم تحرك ضمير أي «بني آدم» طبيعي لكنها لم تحرك ضمائر المجموعات الدولية التي تمتنع أو تعجز عن وقف الكارثة أو «محرقة العصر الجديدة». كل المبادرات العربية، والعربية الدولية ووثيقة نيويورك وقرار الجمعية العامة بأكثرية ساحقة، لم تنجح حتى الآن في وقف الحرب.
ولكن من المرجح أن يساعد موقف «حماس»، المتمثل بالخروج أولا من شراك التفاوض الثنائي مع إدارة ترامب والحكومة الكهانية الجديدة، وإناطة هذه المهمة لإدارة عربية ودولية منبثقة عن مؤتمر نيويورك بمشاركة رسمية فلسطينية.
البداية العملية تكون باتخاذ خطوة سريعة عنوانها الافراج عن الأسرى الإسرائيليين ومبادلتهم بأسرى فلسطينيين. هذه الخطوة ستنزع الذريعة الأهم من حكومة نتنياهو لمواصلة وتصعيد الحرب الدموية الإبادية، وتوفر للمعسكر المناهض للحرب شروطا قوية للعمل على وقفها ووقف نزف الدماء الفلسطينية ووقف الموت والتشريد والتجويع ووقف محو معالم غزة التاريخية، لا سيما أن هناك أكثرية دولية ساحقة مع وقف الحرب وهناك قوى سياسية ومجتمعية إسرائيلية مع إنهاء الحرب وعدم التورط في احتلال غزة والمخيمات المحيطة بها لدوافع أخرى. البديل عن ذلك سيكون انتحارا للمجتمع وللمقاتلين الشبان ولحركة «حماس».
الخطوة الثانية: خروج «حماس» من الحرب ومن المشهد السياسي، بدءا من نقد استراتيجية المقاومة الإسلامية التي قدمت نموذجا اقل ما يقال عنه إنه الأكثر فشلا وخسارة وإحباطا وتناقضا، ذلك النموذج الذي قدم الشيء ونقيضه. كأن يكون مقر قيادة المقاومة الإسلامية في قطر متجاورا مع أضخم قاعدة عسكرية أميركية وظيفتها إخضاع الدول والشعوب لعلاقات تبعية مستدامة، في الوقت الذي يُسمح لقيادة المقاومة الإسلامية «باستخدام» قطر كقاعدة ارتكاز سياسي وإعلامي ولوجستي لمقاومة إسرائيل على طريق وعد الآخرة! أي إزالة إسرائيل. وكأن تقوم إسرائيل بنقل ملايين الدولارات - كاش - من الدوحة إلى مطار اللد إلى معبر بيت حانون - «إيريز» لتتسلمها أجهزة المقاومة التي تعد العدة لمهاجمة إسرائيل. وكأن تسمح القاعدة الأميركية وحليفتها إسرائيل بفتوى الشيخ القرضاوي – المرجعية الدينية الأولى – الذي سمح بقتل المدنيين الإسرائيليين عبر العمليات الاستشهادية من اجل خلق توازن رعب بين إسرائيل والمقاومة الإسلامية، ولا تحرك القاعدة وإسرائيل ساكنا ضد الإفتاء وصاحبه، في الوقت الذي تتخذ فيه أقسى الإجراءات ضد ناقدي الاستيطان وضد المطالبين بمقاطعة إسرائيل أكاديميا واقتصاديا وفنيا وتعتبر ذلك معاديا للسامية وتناقضات أخرى سأعود إليها لاحقا.
أما المطالبة بخروج «حماس» من المشهد السياسي فيعود للأسباب التالية أولا: لأن معظم دول العالم أدانت هجوم 7 أكتوبر وحملت «حماس» وفصائل أخرى المسؤولية عنه، وفي احسن الأحوال تحدثت عن السياق الإسرائيلي الذي أدى إلى الهجوم. ولأن الاتحاد الأوروبي وعشرات الدول الأخرى أدرجوا حركة «حماس» في قائمة «المنظمات الإرهابية» المحظورة. ولأن المنظمات الحقوقية الدولية كمحكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية و»هيومان رايتس ووتش» ومنظمة «أمنستي» ومجلس حقوق الإنسان أدانت حركة «حماس» بوصفها منظمة مارست الإرهاب. بل أدرجت المحكمة الجنائية 3 قيادات من «حماس» إلى جانب نتنياهو ووزير دفاعه السابق غالانت ضمن قائمة المطلوبين للعدالة الدولية. ولأن وثيقة نيويورك الداعية لإنهاء الحرب واعتماد حل سياسي للصراع نددت بالهجمات التي ارتكبتها حركة «حماس» ضد المدنيين في 7 أكتوبر، وطالبت الوثيقة بنزع السلاح، وإنهاء حكم «حماس» في غزة وتسليم أسلحتها إلى السلطة الفلسطينية، اتساقاً مع هدف إقامة دولة فلسطينية مستقلة وذات سيادة. ولأن قرار الجمعية العامة الذي صوتت معه 142 دولة استنكر هجوم 7 أكتوبر واستبعد «حماس» من الحكم وطالبها بنزع السلاح. وأخيرا لأن القمة العربية الإسلامية لم تستنكر استهداف قيادة «حماس» في الدوحة ومحاولة القضاء عليها، واقتصر استنكارها لانتهاك إسرائيل لسيادة قطر وللقانون الدولي.
إذا أضفنا إلى ذلك، السياسة غير المتوازنة وغير المسؤولة التي اتبعتها قيادة الحركة ما بعد مغامرة 7 أكتوبر التي جلبت حرب الإبادة، التنصل من مسؤولية توفير الحماية والغذاء والدواء للمواطنين، ومحاولة حث السلطة والمواطنين في الضفة الغربية ومناطق 48 لدخول الحرب حتى بعد التجربة المريرة في غزة، والتعامل غير المسؤول بمحاولة توريط الأردن في المواجهة، وابتزاز مصر وتحميلها مسؤولية إغلاق معبر رفح والحديث عن انتصار المقاومة، وقرب الانهيار الإسرائيلي. لهذه الأسباب فإن خروج «حماس» من الحرب ومن المشهد السياسي يعبر عن مصلحة وطنية عليا، ويقدم فرصة للحركة كي تراجع سياساتها وعلاقاتها وتأهيل بنيتها الجديدة لتكون جزءا من البيت الفلسطيني الزاخر بالمشاكل ولكن من نوع آخر.