عندما تتحوّل التكنولوجيا إلى قيد غير مرئي.. من قطعة إسرائيل في جيبك إلى البيجر المتفجر والرادارات العمياء

جون مصلح
عندما تتحوّل التكنولوجيا إلى قيد غير مرئي.. من قطعة إسرائيل في جيبك إلى البيجر المتفجر والرادارات العمياء
الكوفية منذ أيام أطلق بنيامين نتنياهو تصريحا صادما قد يمر على الكثيرين كجملة عابرة أو تباهٍ سياسي لكنه في العمق اعتراف خطير "كل من يحمل هاتفًا محمولًا فهو يحمل قطعة من إسرائيل".
هذه العبارة،
في زمن أصبحت فيه الهواتف امتدادا لأدمغتنا ليست مجرد دعاية تكنولوجية بل إقرار صريح بمدى تغلغل الصناعات الإسرائيلية في صلب المكونات الإلكترونية وقدرتها على الوصول إلى كل جيب وكل بيت عبر أدوات يومية.
لكن هذه ليست القصة الوحيدة. فالتاريخ القريب يضع أمامنا وقائع لا تقل رعبًا. في لبنان اهتزت الساحة بحادثة انفجار آلاف أجهزة «البيجر» وأجهزة الاتصال اللاسلكي دفعة واحدة. لم يكن الأمر سوى جرس إنذار بأن سلسلة الإمداد التكنولوجية يمكن تحويلها إلى سلاح جماعي يُفجَّر عند الحاجة. ليست الطائرات ولا الدبابات بل أجهزة صغيرة في الجيوب والمكاتب انفجرت فحولت أدوات الحياة اليومية إلى قنابل صامتة بانتظار الأمر.
ثم جاءت الضربة التي استهدفت قطر وسط واحدة من أكثر شبكات الدفاع تطورا في المنطقة. المنظومات الأمريكية الحديثة باتريوت . ثاد، ورادارات متقدمة لم تعمل كما ينبغي أو تم تجاوزها بطريقة مريبة. هنا لا يعود السؤال: "هل المنظومات ضعيفة؟" بل: "هل نمتلك نحن أصلًا قرار تشغيلها وفعاليّتها .أم أن مفاتيحها الحقيقية في أيدٍ أخرى؟
الخيط الذي يربط بين هذه الأحداث
عند جمع هذه الصور معًا تصريح نتنياهو . حادثة البيجر . وفشل الدفاعات في الدوحة يظهر خيط أحمر واضح: التكنولوجيا لم تعد محايدة.
ما يُزرع في الأجهزة الصغيرة قد ينفجر وما يُبنى في المنظومات الكبيرة قد يتعطّل أو ينقلب على أصحابه في اللحظة المناسبة. لم تعد المسألة مسألة شراء سلاح أو هاتف أو رادار. بل مسألة خضوع كامل لبنية رقمية وبرمجية يتحكم فيها صانعها عن بُعد.
سيناريوهات مرعبة.. لكنها واقعية
سلاح يُعطل في لحظة المعركة الحاسمة أو يرفض العمل إلا بإشارة خفية من الخارج.
أنظمة دفاعية تُصمّم بحيث ترى كل شيء، لكن تُعمي نفسها أمام صديق/عدو حين يُراد.
أجهزة في البيوت والمكاتب من الحواسيب حتى الكاميرات وأجهزة الاتصال تتحول في لحظة إلى أدوات تفجير أو تجسس أو تعطيل كامل.
ملايين الأجهزة حولنا مرتبطة بتحديثات وبرمجيات مغلقة المصدر قد تحتوي على "مفاتيح قتل" جاهزة للتفعيل.
ماذا يعني هذا للعالم العربي؟
ببساطة: نحن نجلس على برميل بارود تكنولوجي مفاتيحه ليست بأيدينا.
الهواتف . الشبكات. الرادارات . وحتى الأجهزة الكهربائية المنزلية طالما أن خطوط إنتاجها ودوائرها ممهورة بأختام شركات مرتبطة بالغرب أو إسرائيل فإنها قابلة للاستغلال.
النتيجة؟ لا ضمانة أن ما نشتريه للدفاع أو للاستخدام المدني لن ينقلب ضدّنا في ساعة الصفر.
الطريق نحو التغيير — ليس ترفًا بل ضرورة وجودية
* وقف الاعتماد الأعمى على الواردات: لا يجب أن تدخل أي منظومة دفاعية أو تقنية حساسة دون اختبارات محلية مستقلة وشاملة.
* اعادة توجيه الاستيراد: التوجّه نحو دول أقل ارتباطا بالغرب في مجال التقنية مثل بعض شركاء آسيا وأمريكا اللاتينية دول إسلامية مع فرض شروط واضحة على الشفافية والفحص.
* إنشاء مختبرات عربية لفحص الأجهزة والبرمجيات قادرة على تحليل المكوّنات لاكتشاف أي أبواب خلفية أو وظائف خفية.
* بناء تصنيع محلي تدريجي ليس مطلوبا أن نصنع كل شيء غدًا لكن البداية بخطوط إنتاج بسيطة للأجهزة الحساسة سيضع حجر الأساس للاستقلال.
* اعتماد برامج كشف ذكية: أنظمة رقابية محلّية تستطيع رصد أي سلوك مشبوه في الأجهزة المستوردة من استهلاك طاقة غريب إلى تحديثات مجهولة المصدر.
* إرادة سياسية جديدة: المطلوب قرار سياسي يغيّر فلسفة الاستيراد من شراء الأرخص والأشهر إلى شراء الآمن والمضمون .
التاريخ يُكتب اليوم بأدوات غير مرئية. قطعة صغيرة في الهاتف قد تفتح بابًا لجهاز استخبارات. أو تفجيرا مؤجلًا. رادار بمليارات الدولارات قد يغدو أعمى إذا لم يُرد صانعه أن يرى. وما نراه اليوم في لبنان وقطر وتصريحات إسرائيل ليست سوى مقدمات لِما يمكن أن يصبح نمطًا أخطر في المستقبل.
إذا لم نُغير سياساتنا اليوم، فغدا سنكتشف أن جيوشنا وأجهزتنا ومكاتبنا وحتى بيوتنا ليست ملكنا بالكامل.
التغيير لم يعد خيارا بل ضرورة وجودية.
فإما أن نُعيد بناء استقلالنا التكنولوجي. أو نظل أسرى قطع صغيرة موزعة في كل مكان تنتظر فقط الأمر لتتحول إلى سلاح ضدّنا.
والله غالب..