ما بين الثورة والانقسام

بن معمر الحاج عبسى
ما بين الثورة والانقسام
الكوفية منذ النصف الثاني من القرن العشرين، شكّلت القيادة الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات ذروة النضج الوطني والسياسي في التجربة الفلسطينية المعاصرة، إذ استطاعت أن تجمع بين البندقية والسياسة، وبين المقاومة والدبلوماسية، وبين الحلم والواقعية التاريخية. فقد تَمثّل في عرفات نموذج القائد الذي أدرك أن الثورة ليست مغامرة عسكرية، بل مشروع تحرر وطني يوازن بين الشعار والمصلحة، وبين الثبات والمناورة. ومع ذلك، فإن المشهد الفلسطيني الراهن، في ظل الانقسام الداخلي، يعكس تراجعًا مؤلمًا في هذا الوعي القيادي، حيث باتت غزة – بعد سيطرة حركة حماس عليها – مختبرًا لتجربة مغايرة تمامًا في طبيعة القيادة ومسؤوليتها، بل ومفهوماً مختلفًا للوطنية ذاتها. هذا التباين بين مرحلة الثورة بقيادة عرفات ومرحلة الانقسام الراهن ليس مجرد اختلاف في الأشخاص أو الأساليب، بل هو في جوهره اختلاف في فلسفة القيادة ومفهومها، بين قيادةٍ رأت في الشعب مصدر شرعيتها ومآل نضالها، وقيادةٍ انكفأت على ذاتها لتصبح السلطة هدفًا، لا وسيلة للتحرر.
لقد مثّلت مرحلة الثورة الفلسطينية بقيادة منظمة التحرير وياسر عرفات تجربةً استثنائية في التاريخ العربي الحديث، حيث ولدت القيادة من رحم المخيم والسلاح والمعاناة، وتكوّنت شرعيتها من تضحياتها، لا من صناديق اقتراع أو تحالفات إقليمية. كان عرفات – الذي حمل القضية إلى العالم – يدرك أن بقاء فلسطين في الوعي الإنساني يحتاج إلى صوتٍ سياسي موحّد، لا إلى شعارات متفرقة. ولذلك، فإن خروجه من بيروت عام 1982 لم يكن هروبًا، كما يصوّر البعض، بل قرارًا استراتيجيًا صاغته الضرورة الوطنية. فقد اختار أن يحافظ على الثورة من الإبادة، وأن ينقلها إلى ساحات جديدة، بدل أن يُباد المقاتلون في معركة عبثية ضد آلة الحرب الإسرائيلية التي دمّرت بيروت بلا رحمة. في تلك اللحظة، كان عرفات يوازن بين شرف الصمود وحكمة البقاء، بين الرمز الذي لا ينكسر والواقعي الذي يحفظ جذوة الثورة. ومن هنا، تميّزت قيادته بوعيٍ عميقٍ بدور الزمن في النضال، إذ لم يكن يرى في الانسحاب من ساحةٍ نهاية الثورة، بل امتدادًا لها في شكلٍ آخر.
أما في التجربة الراهنة، فقد شهدت غزة تحوّلاً في طبيعة القيادة من الوطنية الجامعة إلى الحزبية الضيقة، ومن المشروع التحرري إلى مشروع السيطرة. فعندما سيطرت حركة حماس على القطاع عام 2007، بدا وكأن صفحة جديدة تُكتب في التاريخ الفلسطيني، لكنها سرعان ما انقلبت إلى حالة انقسامٍ سياسي واجتماعي وأيديولوجي عميق، أعاد تعريف مفهوم "المقاومة" على نحوٍ براغماتي، محكومٍ بالمصالح التنظيمية أكثر من الثوابت الوطنية. لقد تحولت المقاومة من وسيلة لتحرير الوطن إلى أداة لإدامة النفوذ السياسي في قطاعٍ محاصرٍ ومنهك. وبينما كان عرفات يقود منظمة التحرير من منطلق تمثيل الفلسطينيين جميعًا، اختزلت قيادة حماس نفسها في فصيلٍ مغلق، يرى العالم من نافذةٍ واحدة، ويعتبر شرعيته مستمدة من القوة لا من الإجماع.
إن الفرق الجوهري بين المرحلتين يكمن في مفهوم المسؤولية الوطنية. فحين حوصرت بيروت عام 1982، لم يفكر عرفات في الهروب، لكنه فكّر في وقف المجزرة بحق المدنيين. قراره بالخروج لم يكن تنازلاً، بل حفاظًا على ما تبقّى من الثورة. أما اليوم، فإن القيادة في غزة كثيرًا ما تبدو منفصلة عن معاناة الناس، ترفع شعار الصمود في الوقت الذي ينهار فيه كل شيء: البنية التحتية، النظام الصحي، الأمن الغذائي، والنسيج الاجتماعي. لقد أصبحت فكرة "البقاء في الحكم" بحد ذاتها غايةً تبرر كل الوسائل، حتى لو كانت على حساب كرامة الشعب ودمائه. هذه المفارقة التاريخية هي التي جعلت من الثورة الفلسطينية زمن عرفات حالة وطنية جامعة، وجعلت من الانقسام الحالي أزمة هوية وطنية عميقة.
يُجمع معظم الباحثين في الشأن الفلسطيني – ومنهم رشيد الخالدي وإدوارد سعيد وعزمي بشارة – على أن عرفات كان يتمتع بقدرة نادرة على قراءة الموازين الدولية، وأنه استطاع عبر براغماتيته السياسية أن يحافظ على مكانة القضية في الضمير العالمي، رغم الهزائم العسكرية. هذه البراغماتية لم تكن انحناءً، بل كانت نوعًا من الذكاء السياسي الذي يعرف أن النضال لا يُقاس بعدد الرصاصات، بل بمدى استمراره في الوعي الجمعي. في المقابل، فإن التجربة الراهنة في غزة تُظهر انغلاقًا في التفكير السياسي، ورفضًا لأي مقاربة عقلانية لمسار الصراع. فبينما كانت الثورة تُدار بعقلية التحرير المرحلي – "سلطة وطنية على أي شبر محرر" – تحوّلت القيادة الحالية إلى عقلية “إدارة الأزمة”، حيث المقاومة تُستخدم كغطاءٍ لمشروعٍ سلطوي أكثر منها كأداةٍ للتحرر.
ويشير المحللون إلى أن الفارق بين عرفات وحماس لا يتعلّق فقط بالشرعية السياسية، بل أيضًا بالبعد الإنساني والأخلاقي في القيادة. فقد كان عرفات، رغم كل ما قيل عنه، يعيش بين شعبه، في المقرّ نفسه الذي تُقصف جدرانه، يشاركهم الخبز والحصار والخطر. بينما في التجربة الراهنة، تتجلى الهوّة بين القاعدة والقيادة، إذ يعاني الناس ويلات الحرب والمجاعة، فيما تتنقل القيادات بين العواصم، تتحدث باسم “المقاومة” دون أن تذوق مرارتها. هذه الفجوة الأخلاقية هي التي جعلت كثيرًا من الفلسطينيين يشعرون بأنهم تُركوا في الميدان وحدهم، وأن شعارات “الصمود” باتت تبريرًا للعجز لا وعدًا بالنصر.
التحليل الأكاديمي لهذه التحولات يقودنا إلى مفهومٍ محوري: القيادة التحويلية مقابل القيادة السلطوية. فالثورة الفلسطينية في زمن عرفات مثّلت قيادة تحويلية ، أي قيادة قادرة على تحويل المعاناة إلى وعي، والهزيمة إلى حافز، والمأساة إلى مشروع وطني شامل. كانت القيادة تُلهم الجماهير وتمنحها شعورًا بالمصير المشترك. أما في مرحلة الانقسام، فقد تحولت القيادة إلى نموذج سلطوي ، يركز على السيطرة والإخضاع بدل الإلهام، ويُعيد إنتاج أدوات القهر بدل توسيع أفق التحرر. فحين تُختزل الوطنية في الولاء التنظيمي، تنكسر الفكرة الجامعة التي قامت عليها الثورة منذ انطلاقتها في ستينيات القرن الماضي.
لقد كانت بيروت عام 1982 لحظةً كاشفة لمعنى القيادة في التاريخ الفلسطيني. فخروج عرفات لم يكن مجرد انتقال جغرافي من لبنان إلى تونس، بل انتقال رمزي من مرحلة الكفاح المسلح إلى مرحلة الكفاح السياسي، من الثورة كفعلٍ عسكري إلى الثورة كحركةٍ دبلوماسية تحافظ على حضور فلسطين في الأمم المتحدة، في القمم العربية، وفي الذاكرة الإنسانية. ومن ثمّ، حين عاد إلى غزة عام 1994، لم يعد بصفة اللاجئ أو المهزوم، بل بصفة القائد الذي نجح في تحويل المنفى إلى منصةٍ للعودة، والسلاح إلى ورقةٍ سياسية تفاوضية. هذه القدرة على التحوّل هي ما تفتقده التجربة الحالية، التي ما زالت تدور في حلقةٍ مغلقة من الشعارات دون قدرة على تجديد أدواتها أو قراءة التحولات الدولية.
من زاوية أخرى، يمكن القول إن عرفات مثّل لحظة العقلانية التاريخية في المشروع الوطني، في حين مثّل الانقسام الراهن لحظة التكلّس الأيديولوجي. فبينما كان عرفات يوازن بين الواقعية السياسية والحلم التحرري، تُصرّ القيادة الراهنة على خطابٍ مثالي منفصل عن الواقع. هذه المثالية المجرّدة، حين تُمارس من موقع السلطة، لا تنتج سوى العجز والفوضى. فالمقاومة التي لا تُترجم إلى رؤيةٍ سياسية واضحة تفقد معناها التحرري، وتتحول إلى طقسٍ شعائريّ. ولذلك، فإن المقارنة بين المرحلتين ليست مجرد حنينٍ إلى الماضي، بل هي قراءة في تحولات الوعي الوطني ذاته: من وعيٍ تحرري جامع إلى وعيٍ فصائلي متشظٍ.
إن النبرة الحادة التي يفرضها هذا التحليل لا تنبع من العداء لأي طرف، بل من الإحساس العميق بالمسؤولية تجاه ما آل إليه المشروع الوطني الفلسطيني. فالثورة التي كانت تُقاتل من أجل فلسطين كلّها، تحوّلت اليوم إلى سلطتين متنازعتين، كلٌّ منهما تدّعي الشرعية باسم الشعب نفسه. هذا الانقسام لم يُضعف الموقف الفلسطيني فحسب، بل قوّض صورة الفلسطيني في الوعي العربي والدولي، إذ بات العالم يرى “قضية منقسمة” بدل أن يرى “شعبًا موحدًا تحت الاحتلال”. وهذا في جوهره فشل قيادي قبل أن يكون فشلًا سياسيًا.
إن التاريخ السياسي المقارن يعلّمنا أن القادة العظام هم أولئك الذين يعرفون متى يتراجعون ليحموا شعوبهم، ومتى يصمدون ليحفظوا كرامتهم. عرفات فعل الأمرين معًا: تراجع عن بيروت ليحمي الثورة، وصمد في المقاطعة حتى الرمق الأخير ليحفظ كرامة القرار الوطني. هذه الثنائية – التراجع الواعي والصمود المبدئي – غابت عن المشهد الحالي، حيث الانغلاق والجمود والتبرير باتت سمة القيادة. فبينما كان الخروج من بيروت قرارًا بطوليًا للحفاظ على الوجود الوطني، باتت قرارات اليوم تُتخذ لحماية الوجود الفصائلي.
لقد فقدت القيادة الفلسطينية الراهنة البُعد الرمزي الذي كان يجعل من كل حركةٍ وكل قرارٍ فعلاً وطنيًا يُلهب الوجدان الجمعي. ففي زمن الثورة، كان الفدائي يحمل حلم العودة على كتفه، وفي زمن الانقسام، صار المواطن يحمل بطاقة تموينية بانتظار معونة. هذا التحول من الفعل إلى الانتظار، من الحلم إلى الحاجة، هو أكبر خسارة أنتجتها أزمة القيادة. فالسياسة لم تعد مشروع تحرير، بل مشروع بقاء.
في النهاية، إن المقارنة بين مرحلة ياسر عرفات ومرحلة الانقسام ليست مقارنة بين شخصين أو فصيلين، بل بين نموذجين في القيادة: الأول وطني تحرري شامل، والثاني سلطوي فئوي منغلق. الأول خرج من بيروت مرفوع الرأس ليحافظ على مشروعه، والثاني حوّل غزة إلى سجنٍ كبير يحاصر نفسه فيه. الأول أسّس ذاكرةً وطنية خالدة، والثاني عمّق انقسامًا تاريخيًا يصعب ترميمه. ولهذا سيبقى عرفات في الذاكرة الفلسطينية مثال القائد الذي جمع بين الشجاعة والعقلانية، بين الثورة والدولة، بينما سيبقى الانقسام الراهن درسًا قاسيًا في غياب الرؤية الوطنية الجامعة. فالتاريخ، في نهاية المطاف، لا يرحم من يهرب من مسؤوليته، ولا يخلّد إلا من أحبّ وطنه أكثر من نفسه.