نشر بتاريخ: 2025/10/22 ( آخر تحديث: 2025/10/22 الساعة: 20:40 )
المستشار د. أحمد يوسف

إيطاليا بين ضمير الشارع واصطفاف الحكومة: ميلوني على خطى نتنياهو وترامب!!

نشر بتاريخ: 2025/10/22 (آخر تحديث: 2025/10/22 الساعة: 20:40)

الكوفية شهدت إيطاليا خلال الأشهر الأخيرة واحدة من أوسع الموجات الاحتجاجية في أوروبا تنديدًا بالحرب الإسرائيلية على قطاع غزة. فمن روما إلى ميلانو، ومن نابولي إلى بولونيا، خرجت عشرات الآلاف من الإيطاليين إلى الشوارع يمثلون منظمات المجتمع المدني والنقابات العمالية والحركات الطلابية والشبكات الكنسية والجمعيات الإنسانية، مطالبين بوقف العدوان ومستنكرين قتل عشرات الآلاف من النساء والأطفال.

وكان بين المتظاهرين عدد من النشطاء الإيطاليين الذين شاركوا في “أسطول الصمود” العالمي، الهادف إلى كسر الحصار المفروض على غزة. وقد عكست شعاراتهم وخطبهم حالة غضب أخلاقي عميقة ورفضًا قاطعًا لسياسة التطهير العرقي والتجويع والقصف الممنهج للنازحين الفلسطينيين. كما انضم إلى هذه الاحتجاجات عدد من أعضاء البرلمان والمفكرين والفنانين الذين طالبوا بمحاسبة إسرائيل على جرائمها أمام القانون الدولي.

لكن، ورغم هذا الزخم الشعبي الواسع، اتخذت الحكومة الإيطالية برئاسة جورجيا ميلوني موقفًا منحازًا بالكامل إلى جانب إسرائيل، متماهية مع الخطاب الأمريكي الذي يبرّر العدوان بوصفه “حقًّا في الدفاع عن النفس”. لقد تجاوزت حكومة ميلوني الحياد الدبلوماسي لتقدّم غطاءً سياسيًا ولوجستيًا لآلة الحرب الإسرائيلية، لتجد إيطاليا نفسها في صفّ الحملة التي بات العالم يصفها بأنها جريمة إبادة جماعية.

هذا الانحياز الحكومي يتناقض بوضوح مع ضمير الشعب الإيطالي، ومع المواقف المتقدمة لعدد من الدول الأوروبية مثل فرنسا وإسبانيا والبرتغال وحتى بريطانيا، التي اعترفت بدولة فلسطين ودعت إلى وقف دائم لإطلاق النار. والسؤال الذي يفرض نفسه: لماذا تصرّ ميلوني على عزل إيطاليا عن هذا الإجماع الأوروبي المتنامي الداعي إلى العدالة والسلام؟

لفهم موقف ميلوني، لا بدّ من العودة إلى خلفيتها الفكرية والسياسية. فهي زعيمة يمينية قومية، متأثرة بالإرث ما بعد الفاشي، وقد عبّرت مرارًا عن إعجابها بنماذج “القيادة القوية” المتمثلة في دونالد ترامب وبنيامين نتنياهو. إن رؤيتها للعالم تنطلق من سردية شعبوية ترى في إسرائيل حصنًا للغرب في مواجهة “الإرهاب الإسلامي”، وهو خطاب يلقى صدى واسعًا في أوساط اليمين المتطرّف الأوروبي.

وإلى جانب هذا البعد الأيديولوجي، فإن للحسابات الاستراتيجية دورًا مهمًا في تحديد الموقف الإيطالي. فروما تنظر إلى إسرائيل كشريك في مجالات التكنولوجيا المتقدمة والأمن السيبراني واستكشاف الغاز في شرق البحر المتوسط، كما تسعى للحفاظ على علاقاتها الوثيقة بواشنطن ضمن معادلة “الولاء للأطلسي”. هذه الاعتبارات مجتمعة تجعل ميلوني مترددة في اتخاذ أي موقف ينتقد الاحتلال أو يدعم الاعتراف بدولة فلسطين.

ويرى كثير من المراقبين أن انحياز ميلوني لنتنياهو لا يُعبّر عن قوة، بل عن تبعية سياسية وفكرية، وخضوع يتناقض مع القيم الإنسانية التي طالما افتخرت بها إيطاليا. إن تمسك حكومتها بخطاب يغضّ الطرف عن الجرائم الجماعية في غزة يجعلها عرضة للحكم عليها بالتواطؤ في واحدة من أبشع صفحات هذا القرن.

أما الشارع الإيطالي، فيروي قصة مختلفة تمامًا. فبحر الأعلام الفلسطينية، والهتافات التي تملأ الميادين بـ“أوقفوا الإبادة في غزة”، والمشاركة الواسعة من مختلف الفئات — من طلاب الجامعات إلى الكهنة الكاثوليك والنقابيين — كلها تعكس روحًا حيّة وضميرًا إنسانيًا يرفض الصمت أمام الجريمة. وبينما تقف حكومة ميلوني في الجانب الخطأ من التاريخ، يختار الشعب الإيطالي طريق التضامن بدل اللامبالاة، والإنسانية بدل النفاق. إن شجاعة الإيطاليين الأخلاقية تذكّرنا بأن الحكومات قد تخطئ الحساب، لكن ضمير الشعوب يظلّ هو النور الذي يهدي درب العدالة والحرية.

الموقف التاريخي لإيطاليا من القضية الفلسطينية

عرفت إيطاليا في عقود سابقة مواقف أكثر توازنًا تجاه القضية الفلسطينية، خاصة خلال سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، حين دعمت الحوار مع منظمة التحرير الفلسطينية ولعبت دورًا فاعلًا في “الحوار الأورو–عربي”، مؤيدةً قيام سلام عادل يقوم على القانون الدولي وحقّ الفلسطينيين في تقرير مصيرهم. وكانت إيطاليا من أوائل الدول الغربية التي استقبلت ياسر عرفات رسميًا عام 1982، في خطوة شكّلت آنذاك اختراقًا دبلوماسيًا مهمًا.

وخلال العقود التالية، ظلت منظمات المجتمع المدني والكنيسة الكاثوليكية والتيارات اليسارية الإيطالية تعبّر عن تضامنها الدائم مع الشعب الفلسطيني عبر المساعدات الإنسانية والحملات الشعبية. غير أن صعود اليمين القومي في السنوات الأخيرة جعل السياسة الخارجية الإيطالية تميل تدريجيًا إلى واشنطن وتل أبيب، مبتعدة عن إرثها القديم الذي جمع بين الواقعية السياسية والالتزام الأخلاقي.