قانون الدين العام الجديد.. الانضباط المالي الحكومي بين الفرصة والتحدي
قانون الدين العام الجديد.. الانضباط المالي الحكومي بين الفرصة والتحدي
الكوفية في وقت يفرض فيه الواقع المالي ضغوطًا متزايدة على السلطة الفلسطينية، صدر قانون رقم (20) لسنة 2025 بشأن تعديل قانون الدين العام ليشكل محاولة لإعادة رسم العلاقة بين الحكومة والمواطنين، مع التركيز على الموظفين العموميين الذين يمثلون القلب النابض للخدمة العامة واستقرار المجتمع، ويبدو القانون على الورق كإطار أكثر صرامة لإدارة الدين، إذ يحدد سقوف الاقتراض ويعيد تنظيم أدوات الدين الداخلي والخارجي، ويضع أسسًا واضحة للشفافية والمساءلة، هذه الخطوة تشير إلى نية جادة لتعزيز الثقة لدى الجهات المانحة والمستثمرين، لكنها تحتاج إلى فهم أعمق لكيفية تأثيرها على الاستقرار المالي والاجتماعي على الأرض.
من منظور الانضباط المالي، يقدم القانون خطوات مهمة نحو ضبط النفقات وإعادة ترتيب أولويات الموازنة العامة، ما يعكس حرص المشرّع على الاستدامة المالية وتقليل المخاطر المرتبطة بالاستدانة العشوائية، ومع ذلك، يبرز أحد التحديات الكبرى؛ غياب تصور واضح لمصادر تمويل لصندوق الوفاء المذكور في القانون، التي يفترض أن تكون الآلية الأساسية لتغطية الالتزامات الجارية، وخصوصًا رواتب الموظفين والمستحقات الأخرى، هذا الغياب يجعل تطبيق القانون رهينًا بكيفية إدارة الموارد المالية، ويترك مجالًا للتأويلات الإدارية التي قد تؤثر على استقرار الموظفين والاقتصاد المحلي.
من بين المخاطر العملية التي يثيرها القانون، احتمال تحويل مستحقات الموظفين إلى أدوات دين مؤجلة الدفع، فعلى الورق، قد يبدو هذا مجرد حل تقني لإدارة العجز المالي، لكنه يحمل تأثيرات مباشرة على الثقة والاستقرار؛ فالرواتب النقدية ليست مجرد أرقام في الموازنة، بل تعكس التزامًا مباشرًا من الدولة تجاه موظفيها، وأي تحويل لها إلى سندات قد يضعف هذه الثقة ويؤثر على القدرة الشرائية ويضعف النشاط الاقتصادي المحلي، إضافة إلى ذلك، أي فائدة مرتبطة بهذه الأدوات قد تزيد تكلفة الدين العام بدل أن تخفف منه، ما يحوّل حلًا مؤقتًا إلى عبء دائم على الموازنة، ويخلق ضغطًا طويل المدى على السيولة.
الموظف العمومي في هذا السياق ليس مجرد بند في الموازنة، بل حجر أساس للاستقرار الاجتماعي والاقتصادي، واستمرار الخدمات العامة يعتمد على انتظام صرف رواتبه؛ لذلك، فإن أي تطبيق للقانون دون ضمان صريح لاستحقاقاته المالية، أو بدون آليات بديلة محمية قانونيًا في حالات الطوارئ، قد يضعف فاعلية القانون ويقوض ثقة الموظفين بالدولة ومصداقية النظام المالي.
في هذا الإطار، تبرز الحاجة إلى أفكار مبتكرة "خارج الصندوق" حيث يمكن التفكير في وضع آليات تمويل مرنة لصندوق الوفاء تعتمد على مصادر متنوعة مثل الإيرادات الاستثنائية، أو مخصصات ضريبية محددة، أو تخصيص جزء من العائدات المستقبلية لموارد استدامة التمويل، كما يمكن تصور برامج تدريجية لسداد الالتزامات المؤجلة بحيث لا تتضرر الرواتب اليومية أو القدرة الشرائية للموظف، وهو ما يخلق توازنًا حقيقيًا بين الانضباط المالي والعدالة الاقتصادية.
القانون أيضًا يحتاج إلى معالجة العلاقة بين الدين العام والنمو الاقتصادي المحلي، فإدارة الدين بشكل صارم يجب ألا تأتي على حساب النشاط الاقتصادي أو الاستثمار في القطاعات الإنتاجية، حيث أن أي نهج يربط بين ضبط الدين وتعزيز مصادر التمويل المستدامة، مثل المشروعات الاستثمارية أو الإيرادات غير التقليدية، يمكن أن يحوّل التحدي إلى فرصة حقيقية لتعزيز الاستقرار المالي والاقتصادي في الوقت ذاته.
على المستوى السياسي والاجتماعي، يحمل القانون رسالة واضحة حول جدية الدولة في إدارة مواردها، لكنه يضع على المحك العلاقة بين الحكومة والموظف والمجتمع المدني، حيث أن الانضباط المالي وحده لا يكفي، بل يجب أن يقترن بعدالة واضحة في توزيع الالتزامات وحماية الفئات الأكثر هشاشة، النجاح الحقيقي للقانون يقاس بقدرته على ضمان استمرارية الرواتب والمستحقات، وبتحقيق التوازن بين ضبط المديونية والوفاء بالتزامات الدولة تجاه موظفيها.
في المجمل، يمكن القول إن قانون الدين العام المعدّل لعام 2025 يمثل خطوة إصلاحية مهمة على مستوى الشكل والنية، لكنه يحتاج إلى خطة تنفيذية متكاملة تشمل تمويل صندوق الوفاء، حماية حقوق الموظفين، وربط الانضباط المالي بتعزيز النشاط الاقتصادي، فالقانون وحده لا يخلق الاستقرار، بل التطبيق الواقعي المدعوم برؤية واضحة وابتكار في التمويل والاستدامة هو ما يضمن النجاح، وفي ظل هذا التحدي، تبقى قدرة الحكومة على الموازنة بين الانضباط المالي وحماية حقوق الموظفين هي المؤشر الحقيقي لنجاح القانون، وفرصة لبناء ثقة متجددة بين الدولة والمواطن.