نشر بتاريخ: 2025/10/30 ( آخر تحديث: 2025/10/30 الساعة: 14:17 )

البنك الفيدرالي يرسم ملامح المرحلة المقبلة.. هبوط آمن وتوازن دقيق بين التضخم والانكماش

نشر بتاريخ: 2025/10/30 (آخر تحديث: 2025/10/30 الساعة: 14:17)

الكوفية في ليلة التاسع والعشرين من أكتوبر 2025، بدا "جيروم باول" مختلفًا، لم يكن رئيس الفيدرالي المتشدّد الذي اعتدنا صوته الحاد في مؤتمرات السنوات الماضية، بل رجلٌ يزن كلماته على ميزانٍ جديد، كأنما يستشعر أن الزمن تغيّر وأن مرحلة أخرى بدأت تتشكّل، خفض الفيدرالي سعر الفائدة ربع نقطة مئوية، لتستقر بين 3.75% و4.00%، في إشارة صريحة إلى أن دورة التشديد النقدي التي أنهكت الاقتصاد الأميركي والعالمي قد بلغت نهايتها، لم يعلن "باول" ذلك مباشرة، لكنه ترك الكلمات تتسلّل بين السطور؛ "التضخم تحت السيطرة، وسوق العمل يهدأ، والمخاطر الآن لم تعد في الأسعار بقدر ما هي في النمو نفسه".

لكن "باول" بطريقته المعتادة، لم يمنح السوق اليقين الكامل، قال إن قرار ديسمبر ليس مضمونًا، وإن السياسة النقدية ستظل رهينة للبيانات والتوازن بين المخاطر، كان يعلم أن كل كلمة تصدر عنه تُترجم فورًا إلى حركة في الأسواق، فاختار أن يزرع الحذر في العقول، دون أن يمنع الأمل من التمدّد، ومع ذلك، لم يخطئ المستثمرون في قراءة ما بين السطور: "الفيدرالي يتراجع خطوة بعد أخرى عن خط التشديد الصارم، ويتهيأ لمرحلة أكثر ليونة".

الإعلان الأهم ربما لم يكن خفض الفائدة، بل قرار وقف تقليص الميزانية العمومية، فبعد سنوات من "سحب السيولة" عبر بيع السندات وتقليص الأصول، قرر الفيدرالي أن يُبقي ميزانيته مستقرة اعتبارًا من ديسمبر، في خطوة تعني عمليًا أن زمن انكماش السيولة قد انتهى، ولأن باول لا يترك الأمور دون تلميح مستقبلي، أشار إلى أن الفيدرالي "سيحتاج لاحقًا إلى توسيع الميزانية للحفاظ على مستوى السيولة في النظام المالي"، تلك العبارة وحدها كانت كافية لإشعال خيال الأسواق: "توسّع الميزانية يعني ضخًّا نقديًا، يعني أموالًا جديدة، يعني ضعفًا محتملًا في الدولار ودفئًا في شهية المخاطرة".

في المقابل، لم يُخفِ باول أن التضخم لا يزال أعلى من الهدف البالغ 2%، لكنه بدا مستعدًا لتقبّل مستوى أعلى قليلًا طالما بقي الاقتصاد في المسار الصحيح، هذا التحول في الفلسفة النقدية - من "كبح النار" إلى "إدارتها" - يعبّر عن إدراك جديد لدى صانع السياسة بأن العالم بعد الجائحة وبعد الحرب الأوكرانية لم يعد يحتمل صرامة المدرسة القديمة، سوق العمل تتراجع تدريجيًا، والنمو يفقد زخمه، وأي تشديد إضافي قد يجرّ الاقتصاد إلى ركود لا يريده أحد في عام انتخابي حساس.

الأسواق التقطت الرسالة على الفور، الدولار تراجع بخطوات محسوبة، مدفوعًا بتوقعات دورة خفض جديدة تمتد حتى منتصف 2026، فيما ارتفع الذهب كأنه يستعيد مجده القديم، متغذّيًا على ضعف العائد الحقيقي ودفء التوقعات؛ الأسهم الأميركية قفزت على وقع التفاؤل بانخفاض كلفة التمويل، والسندات ارتفعت أسعارها مع تراجع العوائد، كل شيء كان يشير إلى أن المال يعود إلى الحركة، وأن الرياح تغيّر اتجاهها ببطء بعد ثلاث سنوات من الانكماش النقدي المتواصل.

لكن خلف هذا الهدوء النسبي تكمن معادلة شديدة الحساسية؛ فالفيدرالي يسير الآن على حبلٍ دقيق بين شبح الركود وهاجس التضخم، يحاول أن يهبط بالاقتصاد برفق دون أن يرتطم بالأرض؛ الهبوط الآمن الذي يتحدث عنه باول ليس وعدًا بقدر ما هو أمنية اقتصادية جماعية، لأن أي خلل في التوازن قد يفتح الباب مجددًا أمام موجة تضخمية أو أزمة ائتمان جديدة، ومع ذلك، لا يمكن إنكار أن نبرة باول هذه المرة كانت مختلفة: "أقلّ خوفًا، أكثر واقعية، وأكثر إدراكًا لحقيقة أن السيولة هي أوكسجين النظام المالي، وأن خنقها لم يعد خيارًا مستداماً.

الملفت في الخطاب أن الفيدرالي لم يعد يدافع عن "قوة الدولار" بوصفها هدفًا مقدسًا، بل يتحدث عن "استقرار الأسواق" و"مرونة السيولة"، وهي مصطلحات تفتح الباب أمام تحولات أعمق في بنية السياسة النقدية الأميركية؛ وإذا كان الماضي قد شهد هيمنة الدولار كعملة ملاذ في كل أزمة، فإن المستقبل القريب قد يشهد ولادة مرحلة "الدولار المرن" الذي يتراجع أحيانًا ليحافظ على التوازن العالمي.

في المقابل، يقف الذهب على أعتاب مرحلة جديدة من الصعود، ليس بوصفه ملاذًا مؤقتًا، بل كأصل استراتيجي في بيئة تتجه نحو فائدة منخفضة وتوسع مالي متجدد، كل المؤشرات توحي بأن المعدن الأصفر سيحافظ على زخمه خلال العام المقبل، وربما يختبر مستويات لم يبلغها من قبل.

في المحصلة، ما قاله جيروم باول تلك الليلة لم يكن مجرد بيان تقني، بل إعلان هادئ عن ولادة مرحلة نقدية جديدة؛ الفيدرالي يغيّر لهجته، الأسواق تعيد تموضعها، والدولار والذهب يتهيآن لفصل مختلف من فصول اللعبة الكبرى، إنها ليست نهاية التشديد فحسب، بل بداية زمن جديد من التوازن المرن، حيث لا انتصار كامل للتضخم ولا خضوع مطلق للنمو، بل محاولة دقيقة لترويض الاثنين معًا دون أن ينهار أحدهما في الطريق.