آية أبو نصر... صوت غزة الذي دوّى تحت الركام ولم يُسمع: حين يتجاهل العالم الأدب الذي يُكتب بالدم
 
                                            المحامي علي أبو حبلة
آية أبو نصر... صوت غزة الذي دوّى تحت الركام ولم يُسمع: حين يتجاهل العالم الأدب الذي يُكتب بالدم
الكوفية إعداد: المحامي علي أبو حبلة – سلسلة تحليلات سياسية وثقافية
في مشهدٍ مأساوي يلخص فصول الإبادة في غزة، برزت آية أبو نصر، الفتاة الفلسطينية التي فقدت 150 فردًا من عائلتها، وبقيت الناجية الوحيدة من قصفٍ دمّر منزلهم المؤلف من خمس طبقات.
لكن القدر شاء أن تبقى آية، لا لتنجو فقط، بل لتكتب شهادة أدبية وإنسانية تُوثّق ما عجزت عنه تقارير اللجان الدولية وبيانات الإدانة.
فمن بين الدمار والرماد وصرخات الأمهات، وُلد كتابها "في غزة نجا من مات ومات من نجا" — عمل أدبي وإنساني نابع من قلب الجحيم، لا يروي الحرب بل يعيشها بكل تفاصيلها القاسية.
كتبت لتشهد... لا لتنال جائزة
آية لم تكتب لتنال التكريم أو الشهرة، ولم تُسخّر قلمها لتسويق أفكار غربية أو لتكرار شعارات مستوردة عن حرية المرأة أو مفاهيم “سيداو”.
لقد كتبت لأنها وجدت نفسها شاهدًا وحيدًا على إبادة شعب بأكمله، فحملت على عاتقها مهمة التوثيق بالكلمة بعد أن سقطت كل الكاميرات في الظلام.
تتناول في كتابها مشاهد إنسانية توجع القلب: أمهات يفقدن أبناءهن، آباء ينتظرون لقمة الخبز في طوابير الموت، خيام بلا خصوصية، مرضى بلا دواء، وأطفال بلا أعياد.
هي لم تكتب عن الحب بمعناه الرومانسي، بل عن حب الحياة في وجه الفناء، وحب الوطن في زمن الإبادة.
الكتابة في زمن الموت... شكل من أشكال المقاومة
حين تُقصف المدن وتُهدم البيوت، تصبح الكلمة آخر أشكال الحياة الممكنة.
آية أبو نصر كتبت بدموعها لا بالحبر، في زمنٍ كانت فيه الكتابة مغامرةً بالحياة.
تحوّل كتابها إلى وثيقة إنسانية أدبية تمثل شهادة حية على الجرائم المرتكبة بحق الشعب الفلسطيني، وتجعل من الأدب الفلسطيني أداة توثيقٍ ومقاومةٍ أخلاقية في وجه محاولات الطمس والنسيان.
تجاهلٌ دولي وعربي لأدب الصدق
لكن السؤال المؤلم يبقى: لماذا لم تُكرَّم آية أبو نصر؟
رغم عمق تجربتها الإنسانية وقيمة عملها الأدبي، لم تجد اهتمامًا من الجوائز العالمية أو المراكز الثقافية العربية التي كان من الواجب أن تحتفي بها.
ففي الوقت الذي تتسابق فيه مؤسسات غربية وعربية لمنح الجوائز لمن يكتب عن قضايا الهوية أو النسوية أو التسامح،
تُهمَّش آية لأنها كتبت عن الإبادة لا عن الفرد، وعن الوجع الجماعي لا عن الذات الفردية.
إن هذا التجاهل يكشف خللاً أخلاقيًا وثقافيًا لدى المؤسسات العربية قبل الدولية،
إذ لم تُدرج هذه التجربة ضمن خارطة الأدب المقاوم ولا في أرشيف التوثيق الثقافي العربي، رغم أنها تمثل أحد أهم النصوص الشاهدة على جريمة العصر.
سياسة الجوائز... بين التسييس والانتقائية
الجوائز الكبرى، عربيًا ودوليًا، غالبًا ما تُدار ضمن أطرٍ ثقافية متأثرة بالسياسة،
فتكافئ النصوص التي تُناسب “الذوق العام” وتُغفل تلك التي تُربك الضمير العالمي.
أما آية، فقد كتبت نصًا ينتزع الحياد من جذوره، يضع العالم أمام مسؤولياته الأخلاقية،
ويُحمّل الثقافة مسؤولية الصمت أمام الإبادة.
تكريمها يعني اعترافًا بأن غزة كانت — ولا تزال — مسرحًا لجريمة إنسانية مستمرة، وهو ما لا يجرؤ كثيرون على قوله صراحة.
بين الأدب والضمير
آية أبو نصر لا تحتاج إلى اعتراف لجنة تحكيم، لأن اعتراف الإنسانية بكلماتها أهم من أي وسام.
إن كتابها يجمع بين التوثيق الأدبي والصدق الإنساني، ويمنح الأدب الفلسطيني بعدًا جديدًا في أدب الإبادة والذاكرة الجماعية.
هي تكتب لا باسمها، بل باسم كل من قُتل ولم يجد من يروي حكايته.
جائزتها الحقيقية
جائزة آية ليست نوبل ولا البوكر، بل أن يبقى صوتها شاهدًا في وجه التاريخ.
أن يقرأ طفل فلسطيني يوماً جملتها الخالدة:
"في غزة نجا من مات ومات من نجا"
فيعرف أن الأدب ليس ترفاً، بل فعل مقاومةٍ وصونٍ للذاكرة.
خاتمة تحليلية
إن تجربة آية أبو نصر تُجسد أزمة الضمير الثقافي العربي والدولي في التعامل مع الأدب الفلسطيني بوصفه مرآةً للوجع الإنساني لا مجرد نتاجٍ محلي.
تجاهل المؤسسات الثقافية العربية والعالمية لعملها لا يقل فداحةً عن تجاهل الجرائم ذاتها التي وثّقتها،
وهو ما يدعو إلى مراجعة جادة لدور الثقافة في مواجهة الإبادة والتطهير العرقي.
آية كتبت لتشهد، لا لتُكرَّم.
كتبت لتقول إن الكلمة يمكن أن تحيا حين يموت الجسد، وأن الأدب يمكن أن يكون أقوى من الدمار.
وسيذكر التاريخ أن فتاة من غزة، نجت وحدها من الموت، أحيت بكتاباتها ضمير الإنسانية الغائب.
 
         
               
                 
                     
                     
                 
                     
                                 
                                