على أبواب غزة

د. أحمد رفيق عوض
على أبواب غزة
الكوفية تحشد إسرائيل عشرات الألوف من جنودها على أبواب مدينة محطمة ومدمرة، احتلت عدة مرات، ليس فيها سوى جوعى ومرضى يحتمون بما بقي من هياكل لعمارات أو منازل مدمرة، مدينة لم يبق فيها مستشفى أو جامعة أو مدرسة أو صيدلية أو مخبز أو حديقة أو مسجد أو شارع يمكن السير فيه، مدينة يلفها الغبار والضباب والموت والجوع والألم، مدينة ليس فيها قدرات ولا مقدرات عسكرية تشكل تهديداً لكيان نووي سيبراني متفوق، تحشد إسرائيل جنودها وإعلامها وتجند قوى عالمية لتغطيتها ودعمها ومنحها كل ما تريد من وقت وأسلحة وفيتو أيضاً، قوى تُبعد عنها المساءلة والمحاكمة والنقد والعقوبة، قوى مستعدة لأن تعادي العالم كله من أجل أن تجعل مصلحة إسرائيل فوق كل مصلحة.
تحشد إسرائيل عشرات الألاف من الجنود المدججين بكل الأسلحة، التي تُعرف والتي لا تُعرف، على أبواب مدينة تحتاج عشرات السنين لتستعيد عافيتها وألقها، وفي ذلك، فإسرائيل قد تكون الكيان الأول في التاريخ الذي يعيد احتلال مدينة ثم تدميرها واحتلالها عدة مرات، وقد تكون الكيان الأول الذي لا يصدق أفعاله وأقواله، فأن تُعيد إسرائيل تدمير مدينة غزة مرة أخرى، فهذا يعني أن كل ما قيل آنفاً كان كذبة كبيرة، أو أن إسرائيل تريد اختراع الأهداف وتضخيم الأعداء من أجل استمرار الحرب لعقود أخرى.
إن كل هذا الحشد العسكري من أجل مدينة مدمرة يعني أن إسرائيل لا تريد تسوية على الإطلاق، وإنما تريد استسلاماً وطرداً وإعادة استعمار وبدء عملية استثمار، تريد إسرائيل من احتلال مدينة محتلة أن تفرض رؤيتها الجديدة على الفلسطينيين باعتبارهم ليسوا شعباً ولا يستحقون دولة.
تريد إسرائيل أن تروّع الإقليم وتضبعه أيضاً، تريد إسرائيل أن تستعيد كل أكاذيبها وأن تحقق أوهامها، إسرائيل انتقلت من فكرة التسوية إلى فكرة التطبيع إلى فكرة السلام من خلال القوة، وأخيراً ألقت مرساة العنف والتوسع والعدوان في مقولة إسرائيل الكبرى، وإسرائيل الكبرى فكرة توراتية تكتسي الثوب الاستعماري، وهي فكرة تحتاج إلى ما يعززها ويترجمها على الأرض، مثل إقامة الهيكل وضم الضفة الغربية وضرب الأعداء حيثما يكونون، وعدم الدخول في تسوية تقوم على الندية والمشاركة والمساهمة في صنع سلام إقليمي وعالمي.
ولهذا، إسرائيل تحشد جنودها على أبواب مدينة يحوم فوقها الموت والجوع، لأن إسرائيل تكشف عن أهداف الحرب الحقيقية، لا القضاء على المقاومة ولا إطلاق سراح الأسرى، بل السيطرة الكاملة على الإقليم وفرض الأجندة الإسرائيلية عليها، وهذا مخيف جداً، ليس للشعب الفلسطيني الذي يعاني ما يعاني منذ 76 سنة، بل هو مخيف أيضاً للأصدقاء والحلفاء، عدوانية إسرائيل وشهواتها العميقة والواسعة لن تُسترضى بالاحتواء أو الاتفاقيات أو التبادل التجاري أو العلاقة العسكرية السرية أو العلنية أو من خلال المشاركة في تنفيذ الأجندة الإسرائيلية في المنطقة، كل ذلك لا ينفع ولا يفيد أمام عدوانية متطرفة وغير عاقلة وذاهبة إلى أبعد حد في استخدام القوة بكل أشكالها، لم يخجل وزير الاتصالات الإسرائيلي عندما قال أن الضفة الشرقية لنا، ولم يخجل نتنياهو عندما قال إنه يرى في نفسه حاملاً لرسالة إلهية لتحقيق إسرائيل الكبرى، دون أن يكون هناك اعتذار أو تبرير أو حتى تلطيف للكلام، والأخطر أن أمريكا لم تعقّب، بالعكس، قال هكابي، سفيرها في تل أبيب، أن العلاقة مع إسرائيل روحانية، وهو مستوى غير المستوى الاستعماري الذي تعودنا عليه، إن الاعتراف بالعلاقة الروحانية يشكّل منعطفاً آخر من مستوى هذه العلاقة الاستثنائية في التاريخ، ماذا يعني ذلك؟ يعني أن الأيام القادمة قد تحمل معها مخاطر جديدة، أولها على مدينة غزة المدمرة والمحتلة والجائعة والمريضة والمنهكة.
إسرائيل تريد أن تعيد تدمير ما دمرته، وتريد احتلال ما احتلته، دون اعتبار أو استفادة من التاريخ القريب، فقد كانت إسرائيل تحتل قطاع غزة منذ عام 1967، وأُجبرت على الخروج منه سنة 2005، وها هي تعود مرة أخرى سنة 2025، فهل تعتقد أنها ستغير النتائج؟ المثير للسخرية هنا أن إسرائيل هي أكثر الكيانات مهارة في إطلاق النار على قدميها، ثم تلوم الدنيا كلها بعد ذلك